الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وإذا عرف تنزيه الرب عن صفات النقص مطلقًا، فلا يوصف بالسُّفُول ولا علو شيء عليه بوجه من الوجوه، بل هوالعلي الأعلى الذي لا يكون إلا أعلى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس كمثله شيء فيما يوصف به من الأفعال اللازمة والمتعدية، لا النزول ولا الاستواء ولا غير ذلك، فيجب مع ذلك إثبات ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، والأدلة العقلية الصحيحة توافق ذلك لا تناقضه، ولكن السمع والعقل يناقضان البدع المخالفة للكتاب والسنة، والسلف، بل الصحابة والتابعون لهم بإحسان كانوا يقرون أفعاله من الاستواء والنزول وغيرهما على ما هي عليه. قال أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره: ثنا عصام بن الرَّوَّاد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، وذكر البخاري في صحيحه في [كتاب التوحيد] قال: قال أبو العالية:/ وقال أبو عمرو الطلمنكي: وأجمعوا ـ يعني أهل السنة والجماعة ـ على أن للّه عرشًا، وعلى أنه مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه. قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى: قال: وقال أهل السنة في قوله: وقال عبد اللّه بن المبارك ـ ومن تابعه من أهل العلم، وهم كثير ـ: إن معنى وقول الحسن: وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشده استيعابا؛ لأن فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه واستحسنوه. ثم تكلم على فساد قول من تأول {اسْتَوَى} بمعنى: استولى. وقال الثعلبي: وقال الكلبي ومقاتل: وهذا الوجه من أضعف الوجوه، فإنه قد أخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، وكذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان اللّه ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض)./ فإذا كان العرش مخلوقًا قبل خلق السموات والأرض، فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له؛ لو كان هذا يعرف في اللغة: أن استوى على كذا بمعنى أنه عمد إلى فعله، وهذا لا يعرف قط في اللغة، لا حقيقة ولا مجازًا، لا في نظم ولا في نثر. ومن قال: استوى بمعنى: عمد، ذكره في قوله: وإنما هذا القول وأمثاله ابتدع في الإسلام، لما ظهر إنكار أفعال الرب التي تقوم به ويفعلها بقدرته ومشيئته واختياره؛ فحينئذ صار يفسر القرآن من يفسره بما ينافي ذلك،كما يفسر سائر أهل البدع القرآن على ما يوافق أقاويلهم. وأما أن ينقل هذا التفسير عن أحد من السلف فلا، بل أقوال السلف الثابتة عنهم متفقة في هذا الباب، لا يعرف لهم فيه قولان، كما قد يختلفون أحيانًا في بعض الآيات. وإن اختلفت عباراتهم فمقصودهم واحد وهو إثبات علو اللّه على العرش. فإن قيل: إذا كان اللّه لا يزال عاليًا على المخلوقات كما تقدم، فكيف يقال: ثم ارتفع إلى السماء وهي دخان؟ أو يقال: ثم علا على العرش؟ قيل: هذا كما أخبر /أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد، وروى[ثم يعرج]، وهو ـ سبحانه ـ لم يزل فوق العرش، فإن صعوده من جنس نزوله. وإذا كان في نزوله لم يصر شيء من المخلوقات فوقه، فهو ـ سبحانه ـ يصعد وإن لم يكن منها شيء فوقه. وقوله: فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام، فقبل ذلك لم يكن على العرش؟ قيل: الاستواء علو خاص،فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستو عليه. ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليًا على غيره: إنه مستو عليه، واستوى عليه،/ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره؛ فإنه عال عليه. والذي أخبر اللّه أنه كان بعد خلق السموات والأرض [الاستواء] لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستويًا عليه قبل خلق السموات والأرض لما كان عرشه على الماء، ثملما خلق هذا العالم كان عاليًا عليه ولم يكن مستويًا عليه، فلما خلق هذا العالم استوى عليه، فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما [الاستواء] فهو فعل يفعله ـ سبحانه وتعالى ـ بمشيئته وقدرته؛ ولهذا قال فيه: {ثُمَّ اسْتَوَى} [فصلت: 11] ؛ ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر. وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع، وهذا اختيار أبي محمد بن كُلاَّب وغيره، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وقول جماهير أهل السنة والحديث ونظار المثبتة. وهذا الباب ـ ونحوه ـ إنما اشتبه على كثير من الناس؛ لأنهم صاروا يظنون أن ما وصف اللّه ـ عز وجل ـ به من جنس ما توصف به أجسامهم، فيرون ذلك يستلزم الجمع بين الضدين؛ فإن كونه فوق العرش مع نزوله يمتنع في مثل أجسامهم، لكن مما يسهل عليهم معرفة إمكان هذا معرفة أرواحهم وصفاتها وأفعالها، وأن الروح قد تعرج من النائم إلى السماء وهي لم تفارق البدن، كما قال تعالى: وإذا قبضت الروح عرج بها إلى اللّه في أدنى زمان، ثم تعاد إلى البدن فتسأل وهي في البدن، ولو كان الجسم هو الصاعد النازل لكان ذلك في مدة طويلة، وكذلك ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من حال الميت في قبره وسؤال منكر ونكير له، والأحاديث في ذلك كثيرة. وقد ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أقعد الميت في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا اللّه، فذلك قوله: وكذلك في صحيح البخاري وغيره عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا وضع في قبره ـ وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ـ أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له:ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فيقول:أشهد أنه عبد اللّه ورسوله. فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك اللّه به مقعدًا من الجنة) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيراهما جميعًا. /وأما الكافر والمنافق فيقول: هاه، هاه، لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقال له:لا دَرَيتَ ولا تَلَيْتَ، ويضرب بمطرقة من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين)[وقوله: (ولا تَلَيْتَ) قال ابن الأثير: هكذا يرويه المحدِّثون. والصواب: ولا ائتَلَيت. وقيل: معناه: لا قرأت، أي: لا تلوت].. والناس في مثل هذا على ثلاثة أقوال: منهم من ينكر إقعاد الميت مطلقًا؛ لأنه قد أحاط ببدنه من الحجارة والتراب ما لا يمكن قعوده معه، وقد يكون في صخر يطبق عليه، وقد يوضع على بدنه ما يكشف فيوجد بحاله ونحو ذلك؛ ولهذا صار بعض الناس إلى أن عذاب القبر إنما هو على الروح فقط، كما يقوله ابن ميسرة وابن حزم، وهذا قول منكر عند عامة أهل السنة والجماعة. وصار آخرون إلى أن نفس البدن يقعد،على ما فهموه من النصوص. وصار آخرون يحتجون بالقدرة وبخبر الصادق، ولا ينظرون إلى ما يعلم بالحس والمشاهدة، وقدرة اللّه حق، وخبر الصادق حق، لكن الشأن في فهمهم. وإذا عرف أن النائم يكون نائمًا وتقعد روحه وتقوم وتمشي وتذهب وتتكلم وتفعل أفعالًا وأمورًا بباطن بدنه مع روحه، ويحصل لبدنه وروحه بها نعيم وعذاب، مع أن جسده مضطجع، وعينيه مغمضة، وفمه مطبق، / وأعضاءه ساكنة، وقد يتحرك بدنه لقوة الحركة الداخلة، وقد يقوم ويمشي ويتكلم ويصيح لقوة الأمر في باطنه ـ كان هذا مما يعتبر به أمر الميت في قبره؛ فإن روحه تقعد وتجلس وتسأل وتنعم وتعذب وتصيح وذلك متصل ببدنه، مع كونه مضطجعًا في قبره. وقد يقوى الأمر حتى يظهر ذلك في بدنه، وقد يرى خارجًا من قبره والعذاب عليه وملائكة العذاب موكلة به، فيتحرك بدنه ويمشى ويخرج من قبره، وقد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب، ومن يقعد بدنه ـ أيضًا ـ إذا قوى الأمر، لكن هذا ليس لازما في حق كل ميت؛ كما أن قعود بدن النائم لما يراه ليس لازمًا لكل نائم، بل هو بحسب قوة الأمر. وقد عرف أن أبدانًا كثيرة لا يأكلها التراب كأبدان الأنبياء وغير الأنبياء من الصديقين، وشهداء أحد، وغير شهداء أحد، والأخبار بذلك متواترة. لكن المقصود أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلممن إقعاد الميت مطلقًا هو متناول لقعودهم ببواطنهم،وإن كان ظاهر البدن مضطجعًا. ومما يشبه هذا إخباره صلى الله عليه وسلم بما رآه ليلة المعراج من الأنبياء في السموات، وإنه رأي آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ وأخبر ـ أيضًا ـ أنه رأى موسى قائمًا يصلي في قبره،وقد رآه ـ أيضا ـ في السموات. ومعلوم أن أبدان الأنبياء في القبور إلا عيسى وإدريس. وإذا كان موسى قائما يصلي في قبره، ثم رآه في السماء/ السادسة، مع قرب الزمان، فهذا أمر لا يحصل للجسد. ومن هذا الباب ـ أيضًا ـ نزول الملائكة ـ صلوات اللّه عليهم وسلامه ـ جبريل وغيره. فإذا عرف أن ما وصفت به الملائكة وأرواح الآدميين من جنس الحركة والصعود والنزول وغير ذلك لا يماثل حركة أجسام الآدميين، وغيرها مما نشهده بالأبصار في الدنيا، وأنه يمكن فيها ما لا يمكن في أجسام الآدميين ـ كان ما يوصف به الرب من ذلك أولى بالإمكان، وأبعد عن مماثلة نزول الأجسام، بل نزوله لا يماثل نزول الملائكة وأرواح بني آدم، وإن كان ذلك أقرب من نزول أجسامهم. وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن، فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ [القعود والجلوس] في حق ـ اللّه تعالى ـ كحديث جعفر بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ وحديث عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ وغيرهما أولى ألا يماثل صفات أجسام العباد.
|