الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ وقال ـ قدس الله روحه: والقرآن الذي بين لوحي المصحف متواتر؛ فإن هذه المصاحف المكتوبة اتفق عليها الصحابة، ونقلوها قرآنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي متواترة من عهد الصحابة، نعلم علمًا ضروريًا أنها ما غيرت، والقراءة المعروفة عن السلف الموافقة للمصحف تجوز القراءة بها بلا نزاع بين الأئمة، ولا فرق عند الأئمة بين قراءة أبي جعفر ويعقوب، وخَلَف، وبين قراءة حمزة والكسائي، وأبي عمرو ونعيم، ولم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها: إن القراءة مختصة بالقراء السبعة. فإن هؤلاء، إنما جمع قراءاتهم أبو بكر ابن مجاهد بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، واتبعه الناس على ذلك، وقصد أن ينتخب قراءة سبعة من قراء الأمصار، ولم يقل هو ولا أحد من الأئمة: إن ما خرج عن هذه السبعة فهو باطل، ولا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) أريد به قراءة هؤلاء السبعة، ولكن / هذه السبعة اشتهرت في أمصار لا يعرفون غيرها، كأرض المغرب، فأولئك لا يقرؤون بغيرها؛ لعدم معرفتهم باشتهار غيرها. فأما من اشتهرت عندهم هذه، كما اشتهر غيرها؛ مثل أرض العراق وغيرها، فلهم أن يقرؤوا بهذا وهذا، والقراءة الشاذة مثلما خرج عن مصحف عثمان، كقراءة من قرأ: [الحي القيام] و [صراط من أنعمت عليهم] و [إن كانت إلا زقية واحدة] [والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى] وأمثال ذلك. فهذه إذا قرئ بها في الصلاة، ففيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما: تصح الصلاة بها؛ لأن الصحابة الذين قرؤوا بها كانوا يقرؤونها في الصلاة، ولا ينكر عليهم. والثاني: لا؛ لأنها لم تتواتر إلينا، وعلى هذا القول فهل يقال: إنها كانت قرآنا فنسخ، ولم يعرف من قرأ إلا بالناسخ؟ أو لم تنسخ، ولكن كانت القراءة بها جائزة لمن ثبتت عنده دون من لم تثبت، أو لغير ذلك، هذا فيه نزاع مبسوط في غير هذا الموضع. وأما من قرأ بقراءة أبي جعفر ويعقوب ونحوهما، فلا تبطل الصلاة بها باتفاق الأئمة، ولكن بعض المتأخرين من المغاربة ذكر في ذلك كلاما وافقه عليه بعض من لم يعرف أصل هذه المسألة.
/ وأما [الحروف] هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فالخلاف في ذلك بين الخلف مشهور، فأما السلف فلم ينقل عن أحد منهم أن حروف القرآن وألفاظه وتلاوته مخلوقة، ولا ما يدل على ذلك، بل قد ثبت عن غير واحد منهم الرد على من قال: إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. وقالوا: هو جهمي. ومنهم من كفره، وفي لفظ بعضهم تلاوة القرآن، ولفظ بعضهم الحروف. وممن ثبت ذلك عنه أحمد بن حنبل، وأبو الوليد الجارودي صاحب الشافعي، وإسحاق بن راهويه، والحميدي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وهشام بن عمار، وأحمد ابن صالح المصري. ومن أراد الوقوف على نصوص كلامهم فليطالع الكتب المصنفة في السنة، مثل [الرد على الجهمية] للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم، وكتاب[الشريعة] للآجُرِّى و [الإبانة] لابن بطة، و [السنة] للالكائي، و [السنة] للطبراني، / وغير ذلك من الكتب الكثيرة، ولم ينسب أحد منهم إلى خلاف ذلك، إلا بعض أهل الغرض نسب البخاري إلى أنه قال ذلك. وقد ثبت عنه بالإسناد المرضي أنه قال: من قال عني أني قلتُ: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب. وتراجمه في آخر صحيحه تبين ذلك. وهنا ثلاثة أشياء: أحدها: حروف القرآن، التي هي لفظه قبل أن ينزل بـها جـبريل، وبعد مـا نزل بها، فمن قال: إن هذه مخلوقة فقد خالف إجماع السلف، فإنه لم يكن في زمانهم من يقول هذا، إلا الـذين قالـوا: إن القرآن مخلوق؛ فإن أولئك قالوا بالخلق للألفاظ، ألفاظ القرآن، وأما ما سوى ذلك فهم لا يقرون بثبوته، لا مخلوقًا ولا غير مخلوق، وقد اعترف غير واحد من فحول أهل الكلام بهذا، منهم عبد الكريم الشهرستاني مع خبرته بالملل والنحل؛ فإنه ذكر أن السلف مطلقًا ذهبوا إلى أن حروف القرآن غير مخلوقة، وقال: ظهور القول بحدوث القرآن محدث، وقرر مذهب السلف في كتابه المسمى بـ [نهاية الكلام]. الثاني: أفعال العباد، وهي حركاتهم التي تظهر عليها التلاوة، فلا خلاف بين السلف أن أفعال العباد مخلوقة؛ ولهذا قيل: إنه بدع / أكثرهم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأن ذلك قد يدخل فيه فعله. الثالث: التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية، فهذه منهم من يصفها بالخلق، وأول من قال ذلك ـ فيما بلغنا ـ حسين الكرابيسي، وتلميذه داود الأصبهاني، وطائفة، فأنكر ذلك عليهم علماء السنة في ذلك الوقت، وقالوا فيهم كلاما غليظًا، وجمهورهم ـ وهم اللفـظية عـند السلف ـ الـذين يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، أو القرآن بألفاظنا مخلوق، ونحو ذلك. وعارضهم طائفة من أهل الحديث والسنة كثيرون، فقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، والذي استقرت عليه نصوص الإمام أحمد وطبقته من أهل العلم: أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع، هذا هو الصواب عند جماهير أهل السنة، ألا يطلق واحد منهما، كما عليه الإمام أحمد وجمهور السلف؛ لأن كل واحد من الإطلاقين يقتضي إيهامًا لخطأ؛ فإن أصوات العباد محدثة بلا شك، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد بالقرآن، وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ. فإن جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه، جريًا على منهاج أحمد / وغيره من أئمة الهدى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(زينوا القرآن بأصواتكم). وأما التلاوة في نفسها، التي هي حروف القرآن وألفاظه، فهي غير مخلوقة، والعبد إنما يقرأ كلام الله بصوته، كما أنه إذا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنـما الأعمال بالنيات) فهذا الكلام لفظه ومعناه إنما هـو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قد بلغه بحركته وصوته، كذلك القـرآن لفظـه ومعـناه كلام الله ـ تعالى ـ ليس للمخلوق فيه إلا تبليغه وتأديته وصوته، وما يخفى على لبيب الفرق بين التلاوة في نفسها، قبل أن يتكلم بها الخلق، وبعد أن يتكلموا بها، وبين ما للعبد في تلاوة القرآن من عمل وكسب، وإنما غلط بعض الموافقين والمخالفين، فجعلوا البابين بابا واحدًا، وأرادوا أن يستدلوا على نفس حدوث حروف القرآن بما دل على حدوث أفعال العباد وما تولد عنها، وهذا من أقبح الغلط، وليس في الحجج العقلية، ولا السمعية، ما يدل على حدوث نفس حروف القرآن، إلا من جنس ما يحتج به على حدوث معانيه. والجواب عن الحجج مثل الجواب عن هذه لمن استهدى الله فهداه. وأمـا ما ذكـره من آيـات الصفـات وأحاديثهـا، فمذهب سلف الأمـة ـ من الصحابـة والتابعين، وسائر الأئمة المتبوعين ـ الإقرارُ والإمرارُ. قال / أبو سليمان الخطابي [هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، فقيه محدث، من أهل بست (من بلاد كابل) من نسل زيد بن الخطاب (أخي عمر بن الخطاب) له مصنفات كثيرة منها:[معالم السنن] في شرح سنن أبي داود، و[بيان إعجاز القرآن]، توفى سنة 388هـ]، وأبو بكر الخطيب: مذهب السلف في آيات الصفات، وأحاديث الصفات، إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية، والتشبيه عنها. وقالا في ذلك: إن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات ذاته إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إثبات وجود لا إثبات كيفية، فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع العلم، هذا كلامهما. وقال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإن قال: نحن لا نعلم كيفية ذاته. فقل: ونحن لا نعلم كيفية صفاته، وكيف نعلم كيفية صفة، ولا نعلم كيفية موصوفها. ومن فهم من صفات الله تعالى ما هو مستلزم للحدوث، مجانس لصفات المخلوقين، ثم أراد أن ينفي ذلك عن الله فقد شبه وعطل؛ بل الواجب أن لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا نتجاوز القرآن والحديث. وأن نعلم مع ذلك أن الله تعالى ليس كمثله شىء، لا في نفسه، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، وإن الخلق لا تطيق عقولهم كنه معرفته، ولا تقدر ألسنتهم على بلوغ صفته [الصافات:180-182]، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
/ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. المصاحف التي كتبها الصحابة لم يشكلوا حروفًا، ولم ينقطوها؛ فإنهم كانوا عربًا لا يلحنون، ثم بعد ذلك في أواخر عصر الصحابة لما نشأ اللحن صاروا ينقطون المصاحف ويشكلونها وذلك جائز عند أكثر العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكرهه بعضهم، والصحيح أنه لا يكره؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ولا نزاع بين العلماء أن حكم الشكل والنقط حكم الحروف المكتوبة، فإن النقط تميز بين الحروف،والشكل يبين الإعراب؛ لأنه كلام من تمام الكلام،ويروي عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: [إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه] فإذا قرأ القارئ وإذا كان كذلك فالمداد الذي يكتب به الشكل والنقط كالمداد الذي / يكتب به الحروف، والمداد كله مخلوق، ليس منه شىء غير مخلوق. والصوت الذي يقرأ به الناس القرآن هو صوت العباد؛ لكن الكلام كلام الله تعالى، قال تعالى: وكلام الله غير مخلوق عند سلف الأمة وأئمتها، وهو أيضًا يتكلم بمشيئته وقدرته عندهم،لم يزل متكلما إذا شاء فهو قديم النوع، وأما نفس [النداء] الذي نادى به موسى ونحو ذلك فحينئذ ناداه به، كما قال تعالى: / والنبي صلى الله عليه وسلم بلغه إلي الأمة، والمسلمون يسمعه بعضهم من بعض، وليس ذلك كسماع موسي كلام الله، فإنه سمعه بلا واسطة والذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم هو كلام الله لا كلام غيره وهم يقرؤونه بأصواتهم، ويكتبونه بمدادهم في ورقهم. وأفعالهم، وأصواتهم، ومدادهم، مخلوق. والقرآن الذي يقرؤونه ويكتبونه هو كلام الله تعالي غير مخلوق، سواء قرؤوا قراءة يثابون عليها أو لايثابون عليها، وسواء كتبوه مشكولا منقوطًا أو كتبوه غير مشكول ولا منقوط؛ فإن ذلك لا يخرجه عن أن يكون المكتوب هو القرآن، وهو كلام الله الذي أنزله علي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بين اللوحين كلام الله، سواء كان مشكولا منقوطًا، أو كان غير مشكول ولا منقوط، وكلام الله منزل غير مخلوق، وأصوات العباد والمداد مخلوقان، والقرآن العربي كلام الله تكلم به ليس بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله، وليس لجبريل ولا لمحمد منه إلا التبليغ، لم يحدث واحد منهما شيئًا من حروفه، بل الجميع كلام الله تبارك وتعالى. وهذه [المسائل] مبسوطة في غير هذا الجواب؛ ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة. والله أعلم.
/ وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: الكلام في [القرآن] و[الكلام] هل هو حرف وصوت، أم ليس بحرف وصوت محدث، حدث في حدود المائة الثالثة، وانتشر في المائة الرابعة؛ فإن أبا سعيد بن كلاب ثم أبا الحسن الأشعري ونحوهما، لما ناظروا المعتزلة في إثبات الصفات، وأن القرآن ليس بمخلوق ورأوا أن ذلك لا يتم إلا إذا كان القرآن قديمًا، وأنه لا يمكن أن يكون قديمًا إلا أن يكون معنى قائمًا بنفس الله كعلمه، وزادوا أن الله لا يتكلم بصوت، ولا لغة، لا قديم ولا غير قديم، لما رأوه من امتناع قيام أمر حادث به، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين من أهل الحديث، والفقه، والكلام والتصوف، وإن تنوعت مآخذهم فإن الآثار شاهدة بأن الله يتكلم بصوت. ولهذا جهم الإمام أحمد وغيره من أنكر ذلك. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن أقوامًا يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت. / فقال: هؤلاء جهمية؛ إنما يدورون على التعطيل، وذكر حديث ابن مسعود، وكذلك رواه غير واحد عن أحمد، وكذلك البخاري ترجم في صحيحه بابا في قوله: ثم المثبتون للصوت منهم المعتزلة، الذين يقولون: القرآن مخلوق يقولون كلامه صوت قائم بغيره، ومنهم الكرامية، و طوائف من أهل الحديث من الحنابلة، وغيرهم، يقولون: يتكلم بصوت قائم به، لكن ليس الصوت بقديم. ومنهم طائفة من متكلمة أهل السنة من الحنبلية وغيرهم يقولون: يتكلم بصوت قديم قائم به. ومنهم طائفة من الفقهاء من الحنفية وغيرهم، يقولون: يخاطب / بصوت قائم بغيره، والمعنى قديم قائم به. فلما أظهرت الأشعرية ـ كالقاضي أبـي بكر بن الباقلاني وغيره في أواخر المائة الرابعة ـ أن الكلام ليس بحرف، ولا صوت، ولا لغة، وقد تبعهم قوم من الفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وقليل من أصحاب أحمد رأى أهل الحديث، وجمهور أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث ما في ذلك من البدعة؛ فأظهروا خلاف ذلك، وأطلق من أطلق منهم أن كلام الله حرف وصوت...
/ فأجاب ـ رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين. هذه [المسألة] يتنازع فيها كثير من الناس ويخلطون فيها الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبريل سمعه من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: / ومن قال: إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبريل أو غيره عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فهو قول باطل من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وأن معني التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وبالعبرانية كان توراة،وبالسريانية كان إنجيلا، فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين و وإن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي، أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ، كما قال تعالى [الروم:1، 2] أهذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي؛ ولكنه كلام الله ـ تعالى. والناس إذا بلغوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (إنما الأعمال بالنيات) فإن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لابصوت النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله إذا بلغته الرسل عنه، وقرأته الناس بأصواتهم. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه، ونادى موسى بصوت نفسه؛ كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته؛ فإن الله ليس كمثله شىء، لافي ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وقد نص أئمة الإسلام - أحمد ومن قبله من الأئمة - على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم به بحرف وصوت ليس منه شىء كلامًا لغيره، لا جبريل ولا غيره، وأن العباد يقرؤونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد / صوت القارئ والكلام كلام البارئ. وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب؛ بل يجعل هذا هو هذا فينفيهما جميعًا أو يثبتهما جميعًا، فإذا نفى الحرف والصوت نفي أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله ـ عز وجل ـ ثم جعل كلام الله المتنوع شيئًا واحدًا لا فرق بين القديم والحادث، هو مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئًا واحدًا لا حقيقة له عند التحقيق. وإذا أثبت جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله:إن الحروف متعاقبة في الوجود مقترنة في الذات قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو تتحد بصفته، فقال بنوع من الحلول والاتحاد، يفضي إلى نوع من التعطيل. وقد علم أن عدم الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته خطأ وضلال لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ بـل هم متفـقون عـلى التمـييز بـين صـوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم حروفه ومعانيه / وأنه ينادي عباده بصوته،ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلـى أنه ليس شىء مـن أصوات العباد ولامداد المصاحف قديمًا، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين مقروء بألسنتهم محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبـوها بغيـر شكـل ولا نقط؛ لأنهم كانوا عُرْبًا لا يلحنون، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز، ولم يكره في أظهر قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم [النقط والشكل] حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط الحروف. والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه بل هو تابع للحروف المرسومة؛ فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله: معانيه وحروفه، وإعرابه، والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم. والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله، وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه: سواء كتب / بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم، بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين؛ لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف مشكلا منقوطًا كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين. ولهذا قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه، فجميعه كلام الله، فلا يقال: بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله، وهو ـ سبحانه ـ نـادى مـوسي بصوت سمعه موسى، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن كما قال تعالى: وقد قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ وغيره من الأئمة: لم يزل الله متكلما إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشىء بعد شىء، كما قال تعالى: والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق،منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم:أنه قديم العين، ثم قالت طائفة: هو معنى واحد، هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله لم تزل لازمة لذاته، وإن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معًا أزلا وأبدًا، لم تزل ولا تزال لم يسبق منها شىء شيئًا. وهذا أيضًا مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه في الأزل كان متكلمًا بالنداء الذي سمعه موسى، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس،بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى، ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن / مخلوق في أصل قولهم؛ فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية، فلا يقوم به كلام، ولا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا: هذه حوادث، والرب لا تقوم به الحوادث. فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول، واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة، ويثبتون حدوث العالم، وأخطؤوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا، وادعوا أن الرب لم يكن قادرًا في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وأنه صار قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرًا، لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعًا، وإن الفعل صار ممكنًا له بعد أن صار ممتنعًا عليه من غير تجدد شيء. وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، لا على مالا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين، حيث يثبتونه قادرًا في حال كون المقدور عليه ممتنعًا عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه، كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صـريح المعـقول وصـحيح المنقول؛ فإن الأدلة لا تدل على قدم شىء بعينه من العالم، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن؛ إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته كما تدل على ذلك الدلائل / القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شىء من مفعوله لازمًا لذاته بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شىء من مفعوله لازمًا لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف بالفاعل بالإرادة. وما يذكر بأن المعلول يقارن علته،إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، بل قد يقارنه كما تقارن الحياة العلم،وأما ما كان فاعلا سواء سمى علة،أو لم يسم علة،فلابد أن يتقدم على الفعل المعين،والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شىء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلزمه مفعول معين.وقول القائل:حركت يدي فتحرك الخاتم هو من باب الشرط لامن باب الفاعل، ولأنه لو كان العالم قديمًا لكان فاعله موجبًا بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شىء من الحوادث، وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرًا على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلما إذا شاء فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الأحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته وفيه من الإحسان مادل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه / من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته؛ فإنه مستحق لكل كمال ممكن الوجود لا نقص فيه، منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شىء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقًا؛ فإن وصفه بها من أعـظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره، بل هو المنعم على خلقه بالخـلق والإنشاء ومــا جعله فـيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها، ولا كفؤ له فيها. وأصل اضطراب الناس في [مسألة كلام الله]:أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في [مسألة حدوث العالم] اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثًا، بناء على أن مالا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعًا عليه، وكان معطلا عن ذلك، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرًا في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول والأزل لا أول له والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. / ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين،وبين مالا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام، بل هذا يكون دائمًا،وإن كان كل من آحاده حادثًا، كما يكون دائمًا في المستقبل، وإن كان كل من آحاده فانياً، بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائمًا، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل؛ ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله، الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديمًا واجب الوجود بغيره، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء، مع مخالفتهم لسلفهم أرسطو وأتباعه؛ فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك، وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين، بناء على إثبات علة غائبة لحركة الفلك يتحرك الفلك للتشبه بها، لم يثبتوا له فاعلا مبدعًا، ولم يثبتوا ممكنًا قديمًا واجبًا بغيره، وهم وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم، فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكنًا بذاته فلا يكون إلا محدثًا مسبوقًا بالعدم، فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له، لكن قالوا تقوم به الأمور الاختيارية، فقالوا: إنه في الأزل لم يكن، متكلمًا بل ولا كان الكلام مقدورًا له، ثم صار متكلمًا بلا حدوث حادث بكلام يقوم به، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم. /وطائفة قـالت: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازمًا لذات الرب، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال: هـو معنى واحـد قديم، فجـعل آية الكرسي وآية الدَّين وسائر آيات القرآن والتوراة والإنجيل، وكل كلام يتكلم الله به، معنى واحدًا لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات. وهؤلاء أيضًا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض، ولا يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ولا تفرحه توبة التائبين.وقالوا في قوله: والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه ـ سبحانه ـ لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء ثم افترقوا أحزابًا أربعة ـ كما تقدم ـ الخلقية والحدوثية، والاتحادية، والاقترانية. /وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون: إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته، لا قديم النوع، ولا قديم العين، ولا حادث، ولا مخلوق، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء. ويقولون: إنه كلم موسي من سماء عقله، وقد يقولون: إنه - تعالى- يعلم الكليات دون الجزئيات؛ فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون مع ذلك: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم: يعلم نفسه ومفعولاته حق، كما قال تعالى: وهم إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال ـ للباري تعالى ـ مع أن هؤلاء يقولون إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن الباري؛ لاعتقادهم أنه لا صفة له،بل هو وجود مطلق، وقالوا: إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة / شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف. ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب [شرح الإشارات]، فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب لكنه تناقض مع ذلك حيث نفي قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف وكل صفة هي الأخري. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول معاني الكلام شيء واحد لكنهم ألزموا قولهم لأولئك، فقالوا: إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئًا واحدًا جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة. فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه. ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف، فجاء ابن عربي وابن سبعين، والقونوي ونحوهم من الملاحدة فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا: الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد / بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع. وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، قالوا هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا أولا: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا تسبق الباء السين بل لما نادى موسى فقال ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال:المداد قديم أزلي. وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه بل منهم من يظن أن معناه أنه قديم في علمه، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم من لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في / الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل. والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه - سبحانه - لم يزل متكلمًا إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وإنه -سبحانه - بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أوالصفات باطلة، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد بسطناها في الواجب الكبير، والله أعلم بالصواب.
عن المصحف العتيق إذا تمزق ما يصنع به؟ ومن كتب شيئًا من القرآن ثم محاه بماء أو حرقه فهل له حرمة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. أما المصحف العتيق والذي تخرق، وصار بحيث لا ينتفع به بالقراءة فيه، فإنه يدفن في مكان يصان فيه، كما أن كرامة بدن المؤمن دفنه في موضع يصان فيه، وإذا كتب شيء من القرآن أو الذكر في إناء أو لوح ومحي بالماء وغيره، وشرب ذلك فلا بأس به، نص عليه أحمد وغيره، ونقلوا عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه كان يكتب كلمات من القرآن والذكر، ويأمر بأن تسقى لمن به داء، وهذا يقتضي أن لذلك بركة. والماء الذي توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم هو -أيضًا- ماء مبارك صب منه على جابر وهو مريض. وكان الصحابة يتبركون به، ومع هذا فكان يتوضأ على التراب وغيره، فما بلغني أن مثل هذا الماء ينهي عن صبه في التراب ونحوه، ولا أعلم في ذلك نهيًا؛ فإن أثر الكتابة لم يبق بعد المحو كتابة، ولا يحرم على الجنب مسه، ومعلوم أنه ليس / له حرمة كحرمته ما دام القرآن والذكر مكتوبان، كما أنه لو صيغ فضة أو ذهب أو نحاس على صورة كتابة القرآن والذكر، أو نقش حجر على ذلك على تلك الصورة، ثم غيرت تلك الصياغة وتغير الحجر لم يجب لتلك المادة من الحرمة ما كان لها حين الكتابة. وقد كان العباس بن عبد المطلب يقول في ماء زمزم: لا أحله لمغتسل، ولكن لشارب حل وبل. وروى عنه أنه قال: لشارب ومتوضئ ولهذا اختلف العلماء هل يكره الغسل والوضوء من ماء زمزم، وذكروا فيه روايتين عن أحمد.والشافعي احتج بحديث العباس، والمرخص احتج بحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من ماء زمزم، والصحابة توضؤوا من الماء الذي نبع من بين أصابعه مع بركته لكن هذا وقت حاجة. والصحيح: أن النهي من العباس إنما جاء عن الغسل فقط لا عن الوضوء، والتفريق بين الغسل والوضوء هو لهذا الوجه؛ فإن الغسل يشبه إزالة النجاسة لهذا يجب أن يغسل في الجنابة ما يجب أن يغسل من النجاسة؛ وحينئذ فصون هذه المياه المباركة من النجاسات متوجه، بخلاف صونها من التراب ونحوه من الطاهرات، والله أعلم. آخر المجلد الثاني عشر
|