الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وكلا الطائفتين ، الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو والقرب منه من غير اعتبار بالأمر والنهي المنزلين من عند الله، الذين ينتهون إلى الفناء في توحيد الربوبية، يقولون بالجمع والاصطلام في توحيد الربوبية، ولا يصلون إلى الفرق الثاني، ويقولون: إن صاحب الفناء لا يستحسن حسنة، ولا يستقبح سيئة، ويجعلون هذا غاية السلوك. والذين يفرقون بين ما يستحسنونه، ويستقبحونه ويحبونه ويكرهونه، ويأمرون به وينهون عنه، لكن بإرادتهم ومحبتهم وهواهم لا بالكتاب المنزل من عند الله، كلا الطائفتين متبع لهواه بغير هدى من الله، وكلا الطائفتين لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه، ويأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه، وإنك لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تسأل إلا الله، هذا ملة إبراهيم، وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين. /والفناء في هذا هو الفناء المأمور به، الذي جاءت به الرسل، وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه، فيكون مع الحق بلا خلق، كما قال الشيخ عبد القادر: كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس. وتحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله، يوجب أن تكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله، ودين الله ما أمر به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته، فقال: /فهذا محبوب الحق، ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل، ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله، ويبغض معصية الله ورسوله، فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله، ليس فيها كفر ولا فسوق، والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق، فإن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يزل متقربًا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق، فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته، حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق، فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي. وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فهذا لم تبق عنده الأمور نوعان محبوب للحق، ومكروه، بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق، كما أنه مراد، فإن هؤلاء أصل قولهم: هو قول جهم بن صفوان من القدرية، فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر، وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات، كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب منازل السائرين، وذم الكلام، والفاروق وتكفير الجهمية وغير ذلك، فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة، وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية، وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية. /فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم ابن صفوان وأتباعه فزعموا: أن الأمور كلها لم تصدر إلا عن إرادة تخصيص أحد المتماثلين بلا سبب. وقالوا: الإرادة والمحبة والرضا سواء، فوافقوا في ذلك القدرية، فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول: إن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح، وكلاهما يقول: لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا. ثم قالت القدرية: وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعًا بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه وقالوا: إن محبته ورضاه لأعمال عباده هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها، فلا يكون قط عندهم مريدًا لغير ما أمر به، وأخذ هؤلاء يتأولون ما في القرآن من إرادته لكل ما يحدث ومن خلقه لأفعال العباد بتأويلات محرفة. وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشعرية وأمثالهم: قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شىء وربه ومليكه، ولا يكون خالقًا إلا بقدرته ومشيئته؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود فهو/بمشيئته وقدرته، وهو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد وغيرها، ثم قالوا: وإذا كان مريدًا لكل حادث والإرادة هي المحبة والرضا، فهو محب راض لكل حادث، وقالوا: كل مافي الوجود من كفر وفسوق وعصيان فإن الله راض به محب له، كما هو مريد له. فقيل لهم: فقد قال تعالى: وإما أن يكون خاصًا بمن لم يقع منه الكفر والفساد، ولا ريب أن الله لا يريد ولا يحب مالم يقع عندهم، فقالوا: معناه لا يحب الفساد لعباده المؤمنين، ولا يرضاه لهم. وحقيقة قولهم: أن الله ـ أيضًا ـ لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار. فالمحبة والرضا عندهم كالإرادة عندهم متعلقة بما وقع دون مالم يقع، سواء كان مأمورًا به أو منهيًا عنه. وسواء كان من أسباب سعادة العباد أو شقاوتهم، وعندهم أن الله يحب ما وجد من الكفر والفسوق والعصيان، ولا يحب ما لم يوجد من الإيمان والطاعة، كما أراد هذا دون هذا. والوجه الثاني: قالوا: لا يحب الفساد دينا، ولا يرضاه دينا، وحقيقة هذا القول أنه لا يريده دينا، فإنه إذا أراد وقوع الشيء على صفة لم يكن مريدًا له علي خلاف تلك الصفة، وهو إذا أراد وقوع شىء مع شىء/ لم يرد وقوعه وحده فإنه إذا أراد أن يخلق زيدًا من عمرو لم يرد أن يخلقه من غيره. وإذا أراد أن ينزل مطرًا فتنبت الأرض به، فإنه أراد إنزاله على تلك الصفة، وإذا أراد أن يركب البحر قوم فيغرق بعضهم، ، ويسلم بعضهم، ويربح بعضهم، فإنما أراده على تلك الصفة، فكذلك الإيمان والكفر، قرن بالإيمان نعيم أصحابه، و بالكفر عذاب أصحابه، وإن لم يكن عندهم جعل شىء لشىء سببًا، ولا خلق شىء لحكمة، لكن جعل هذا مع هذا. وعندهم جعل السعادة مع الإيمان، لا به كما يقولون: أنه خلق الشبع عند الأكل، لا به، فالدين الذي أمر به هو ما قرن به سعادة صاحبه في الآخرة، والكفر والفسوق والعصيان عندهم أحبه ورضيه كما أراده، لكن لم يحبه مع سعادة صاحبه، فلم يحبه دينا، كما أنه لم يرده مع سعادة صاحبه دينا. وهذا المشهد الذي شهده أهل الفناء في توحيد الربوبية، فإنهم رأوا الرب تعالي خلق كل شىء بإرادته وعلم أن سيكون ما أراد، ولا سبب عندهم لشىء ولا حكمة، بل كل الحوادث تحدث بالإرادة. ثم الجهم بن صفوان ونفاة الصفات من المعتزلة ونحوهم لا يثبتون إرادة قائمة بذاته، بل إما أن ينفوها، وإما أن يجعلوها بمعنى الخلق والأمر، وإما أن يقولوا: أحدث إرادة لا في محل . وأما مثبتة الصفات، كابن كلاب والأشعري وغيرهما ـ ممن يثبت/ الصفات، ولا يثبت إلا واحدًا معينًا ـ فلا يثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث، وسمعًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مسموع، وبصرًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مرئي، وكلامًا واحدًا بالعين يجمع جميع أنواع الكلام، كما قد عرف من مذهب هؤلاء، فهؤلاء يقولون: جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح، وهي المحبة والرضا وغير ذلك. وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان، ومخالفة بعضها له، فما وافق مراده ومحبوبه كان حسنًا عنده، وما خالف ذلك كان قبيحًا عنده، فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله ولا سيئة يكرهها إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها، والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها من غير فرق يعود إليه. ولا إلى الأفعال أصلاً؛ ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسنًا ولا قبيحًا. لا بمعنى الملائم للطبع والمنافى له، والحسن والقبح الشرعي هو ما دل صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة، أو حصول ألم له. ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شىء حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه، ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر، ولا حسن ولا قبيح، إلا بهذا الاعتبار، فما في الوجود ضر ولا نفع، والنفع والضر/أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضر هذا. كما يقال: مصائب قوم عند قوم فوائد. فلما كان هذا حقيقة قولهم الذي يعتقدونه ويشهدونه صاروا حزبين: حزبًا من أهل الكلام والرأي أقروا بالفرق الطبيعي، وقالوا: ما ثم فرق إلا الفرق الطبيعي، ليس هنا فرق يرجع إلى الله بأنه يحب هذا ويبغض هذا. ثم منهم من يضعف عنده الوعد والوعيد، إما لقوله بالإرجاء، وإما لظنه أن ذلك لمصالح الناس في الدنيا إقامة للعدل، كما يقول: ذلك من يقوله من المتفلسفة، فلا يبقى عنده فرق بين فعل وفعل إلا ما يحبه هو ويبغضه، فما أحبه هو كان الحسن الذي ينبغي فعله، وما أبغضه كان القبيح الذي ينبغي تركه، وهذا حال كثير من أهل الكلام والرأي؛ الذين يرون رأي جهم والأشعري ونحوهما في القدر، تجدهم لا ينتهون في المحبة والبغضة والموالاة والمعاداة إلا إلى محض أهوائهم وإرادتهم، وهو الفرق الطبيعي. ومن كان منهم مؤمنًا بالوعد فإنه قد يفعل الواجبات، ويترك المحرمات لكن لأجل ما قرن بهما من الأمور الطبيعية في الآخرة من أكل وشرب ، ونكاح، وهؤلاء ينكرون محبة الله، والتلذذ بالنظر إليه، وعندهم إذا قيل: إن/ العباد يتلذذون بالنظر إليه فمعناه أنهم عند النظر يخلق لهم من اللذات بالمخلوقات ما يتلذذون به، لا أن نفس النظر إلى الله يوجب لذة، وقد ذكر هذا غير واحد منهم أبو المعالي في الرسالة النظامية. وجعل هذا من أسرار التوحيد وهو من إشراك التوحيد، الذي يسميه هؤلاء النفاة توحيدًا، لا من أسرار التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فإن المحبة لا تكون إلا لمعنى في المحبوب يحبه المحب، وليس عندهم في الموجودات شىء يحبه الرب إلا بمعنى يريده، وهو مريد لكل الحوادث، ولا في الرب عندهم معني يحبه العبد، وإنما يحب العبد ما يشتهيه، وإنما يشتهي الأمور الطبعية الموافقة لطبعه، ولا يوافق طبعه عندهم إلا اللذات البدنية كالأكل والشرب والنكاح. والحزب الثاني: من الصوفية الذي كان هذا المشهد هو منتهي سلوكهم، عرفوا الفرق الطبيعي، وهم قد سلكوا على ترك هذا الفرق الطبيعي، وإنهم يزهدون في حظوظ النفس وأهوائها لا يريدون شيئًا لأنفسهم، وعندهم أن من طلب شيئًا للأكل والشرب في الجنة، فإنما طلب هواه وحظه، وهذا كله نقص عندهم ينافي حقيقة الفناء في توحيد الربوبية وهو بقاء مع النفس وحظوظها. والمقامات كلها عندهم ـ التوكل والمحبة، وغير ذلك ـ إنما هي منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا توحيد الربوبية كان ذلك عندهم عللا في الحقيقة، إما لنقص المعرفة والشهود، وإما لأنه ذب عن /النفس وطلب حظوظها، فإنه من شهد أن كل مافي الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده، لا فرق عنده بين شىء وشىء، إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها، ومنها ما معه ألم لبعض الناس، فمن كان هذا مشهده فإنه قطعًا يرى أن كل من فرق بين شىء وشىء لم يفرق إلا لنقص معرفته، وشهوده أن الله رب كل شىء ومريد لكل شىء ومحب ـ على قولهم ـ لكل شىء، وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه، فيكون طالبًا لحظه ذابًا عن نفسه، وهذا علة وعيب عندهم. فصار عندهم كل من فرق، إما ناقص المعرفة والشهادة، وإما ناقص القصد والإرادة. وكلاهما علة، لخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية، فإنه يشهد كل مافي الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم، لا فرق بين شىء وشىء، فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، كما قاله صاحب منازل السائرين. ولهذا في الكلام المنقول عن الذبيلي، وأبي يزيد أنه قال: إذا رأيت أهل الجنة يتنعمون في الجنة، وأهل النار يعذبون في النار، فوقع في قلبك فرق، خرجت عن حقيقة التوكل، أو قال: عن التوحيد الذي هو أصل التوكل، ومعلوم أن هذا الفرق لا يعدم من الحيوان دائمًا بل لابد له منه يميل إلى ما لا بد له منه من أكل وشرب، لكنه في حال الفناء قد يكون مستغرقًا في ذلك المشهد، ولكن لابد أن يميل إلى أمور يحتاج إليها فيريدها، وأمور تضره فيكرهها وهذا فرق طبيعي لا يخلو منه بشر. /لكن قد يقولون بالفرق في الأمور الضرورية التي لا يقوم الإنسان إلا بها من طعام ولباس ونحو ذلك، فيكتفون في الدنيا والآخرة بما لابد منه من طعام ولباس، ويرون هذا الزهد هو الغاية، فيزهدون في كل شىء، بمعنى أنهم لا يريدونه ولا يكرهونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه، ويكون زهدهم في المساجد كزهدهم في الحانات، ولهذا إذا قدم الشيخ الكبير منهم بلدًا يبدأ بالبغايا في الحانات ويقول: كيف أنتم في قدر الله، فإنه لا فرق عنده في هذا المشهد بين المساجد والكنائس والحانات، وبين أهل الصلاة والإحرام وقراءة القرآن وأهل الكفر وقطاع الطريق والمشركين بالرحمن. ولا ريب أن فناءهم وغيبتهم عن شهود الإلهية والنبوة، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما تضمنه من الفرق يرجع إلى نقص العلم والشهود والإيمان والتوحيد، فشهدوا نعتًا من نعوت الرب، وغابوا عن آخر وهذا نقص. وقد يرون أن شهود الذات مجردة عن الصفات أكمل، ويقولون: شهود الأفعال، ثم شهود الصفات، ثم شهود الذات المجردة، وربما جعلوا الأول للنفس، والثاني للقلب، والثالث للروح، ويجعلون هذا النقص من إيمانهم ومعرفتهم وشهودهم هو الغاية، فيكونون مضاهين للجهمية نفاة الصفات، حيث أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات، وقالوا: هذا هو الكمال، لكن أولئك يقولون: بانتفائها في الخارج، فيقولون: إنهم يشهدون أنها منتفية وهؤلاء يثبتونها في/ الخارج علمًا واعتقادًا، ولكن يقولون: الكمال في أن يغيب عن شهودها ولا يشهدون نفيها، لكن لا يشهدون ثبوتها، وهذا نقص عظيم وجهل عظيم. أما أولاً، فلأنهم شهدوا الأمر على خلاف ما هو عليه، فذات مجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج. وأما الثاني، فهو مطلوب الشيطان من التجهم ونفي الصفات، فإن عدم العلم والشهود لثبوتها يوافق فيه الجهمي المعتقد لانتفائها، ومن قال: أعتقد أن محمدا ليس برسول، وقال الآخر: وإن كنت أعلم رسالته فأنا أفنى عنها فلا أذكرها ولا أشهدها، فهذا كافر كالأول. فالكفر عدم تصديق الرسول، سواء كان معه اعتقاد تكذيب أم لا، بل وعدم الإقرار بما جاء به والمحبة له، فمن ألزم قلبه أن يغيب عن معرفة صفات الله كما يعرف ذاته، وألزم قلبه أن يشهد ذاتًا مجردة عن الصفات، فقد ألزم قلبه أن لا يحصل له مقصود الإيمان بالصفات وهذا من أعظم الضلال. وأهل الفناء في توحيد الربوبية قد يظن أحدهم أنه إذا لم يشهد إلا فعل الرب فيه فلا إثم عليه، وهم في ذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة، وقال: أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني، فلا يضرني، وهذا جهل عظيم، فإن الذنوب والسيئات تضر الإنسان أعظم مما تضره السموم، وشهوده أن الله فاعل ذلك /لا يدفع ضررها، ولو كان هذا دافعًا لضررها لكان أنبياء الله، وأولياؤه المتقون أقدر على هذا الشهود الذي يدفعون به عن أنفسهم ضرر الذنوب. ومن هؤلاء من يظن أن الحق، إذا وهبه حالاً يتصرف به وكشفا لم يحاسبه على تصرفه به، وهذا بمنزلة من يظن أنه إذا أعطاه ملكًا لم يحاسبه على تصرفه فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فبين أنه مع أنه المعطي المانع، فلا ينفع المجدود جده، إنما ينفعه الإيمان و العمل الصالح. فهذا أصل عظيم ضل بالخطأ فيه خلق كثير، حتى آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى أن جعلوا أولياء الله المتقين يقاتلون أنبياءه، ويعاونون أعداءه، وأنهم مأمورون بذلك، وهو أمر شيطاني قدري، ولهذا يقول من يقول منهم: أن الكفار لهم خفراء من أولياء الله، كما للمسلمين خفراء من أولياء الله، ويظن كثير منهم أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي فقال: (يا أصحابي، تخلوني وتذهبون عني) ؟! فقالوا: نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه. ويجوزون قتال الأنبياء وقتلهم ـ كما قال شيخ مشهور منهم ـ كان بالشام ـ: لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا فإنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما وقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، ومالم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، / والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه؛ لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم، وإذا كان الرسول منصورًا كانوا معه، وإذا غلب أصحابه كانوا مع الكفار الذين غلبوهم. وهؤلاء الذين يصلون إلى هذا الحد غالبهم لا يعرف وعيد الآخرة، فإن من أقر بوعيد الآخرة وأنه للكفار لم يمكنه أن يكون معاونًا للكفار مواليا لهم على ما يوجب وعيد الآخرة، لكن قد يقولون بسقوطه مطلقًا، وقد يقولون: بسقوطه عمن شهد توحيد الربوبية، وكان في هذه الحقيقة القدرية، وهذا يقوله طائفة من شيوخهم، كالشيخ المذكور وغيره. فلهذا يوجد هؤلاء الذين يشهدون القدر المحض، وليس عندهم غيره إلا ما هو قدر أيضًا ـ من نعيم أهل الطاعة، وعقوبة أهل المعصية ـ لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل ولا يدعون الله بنصر المؤمنين على الكفار، بل إذا رأى أحدهم من يدعو، قال الفقير أو المحقق أو العارف: ما له ؟! يفعل الله ما يشاء، وينصر من يريد، فإن عنده أن الجميع واحد بالنسبة إلى الله، و بالنسبة إليه أيضًا، فإنه ليس له غرض في نصر إحدى الطائفتين لا من جهة ربه، فإنه لا فرق على رأيه عند الله ـ تعالى ـ بينهما، ولا من جهة نفسه، فإن حظوظه لا تنقص باستيلاء الكفار، بل كثير منهم تكون/ حظوظه الدنيوية مع استيلاء الكفار والمنافقين والظالمين أعظم، فيكون هواه أعظم. وعامة من معهم من الخفراء هم من هذا الضرب، فإن لهم حظوظًا ينالونها باستيلائهم، لا تحصل لهم باستيلاء المؤمنين. وشياطينهم تحب تلك الحظوظ المذمومة، وتغريهم بطلبهم، وتخاطبهم الشياطين بأمر ونهي وكشف يظنونه من جهة الله، وإن الله هو أمرهم ونهاهم، وأنه حصل لهم من المكاشفة، ما حصل لأولياء الله المتقين، ويكون ذلك كله من الشياطين، وهم لا يفرقون بين الأحوال الرحمانية، والشيطانية؛ لأن الفرق مبني على شهود الفرق من جهة الرب ـ تعالى ـ وعندهم لا فرق بين الأمور الحادثة كلها من جهة الله ـ تعالى ـ إنما هو مشيئة محضة تناولت الأشياء تناولاً واحدًا، فلا يحب شيئًا ولا يبغض شيئًا. ولهذا يشترك هؤلاء في جنس السماع الذي يثير مافي النفوس، من الحب والوجد والذوق، فيثير من قلب كل أحد حبه وهواه، وأهواؤهم متفرقة، فإنهم لم يجتمعوا على محبة ما يحبه الله ورسوله، إذ كان محبوب الحق ـ على أصل قولهم ـ هو ما قدره فوقع، وإذا اختلفت أهواؤهم في الوجد، اختلفت أهواء شياطينهم، فقد يقتل بعضهم بعضا بشياطينه؛ لأنها أقوى من شياطين ذاك وقد يسلبه ما معه من الحال الذي هو التصرف والمكاشفة الحاصلة له بسبب شياطينهم، فتكون شياطينه هربت من شياطين ذلك. فيضعف أمره، ويسلب حاله، كمن كان ملكًا له أعوان فأخذت أعوانه، فيبقى ذليلاً لا ملك له، /فكثير من هؤلاء كالملوك الظلمة الذين يعادي بعضهم بعضًا، إما مقتول وإما مأسور، وإما مهزوم. فإن منهم من يأسر غيره فيبقى تحت تصرفه، ومنهم من يسلبه غيره، فيبقى لا حال له، كالملك المهزوم، فهذا كله من تفريع أصل الجهمية الغلاة في الجبر في القدر. وإنما يخلص من هذا كله من أثبت لله محبته لبعض الأمور وبغضه لبعضها، وغضبًا من بعضها، وفرحًا ببعضها، وسخطًا لبعضها، كما أخبرت به الرسل، ونطقت به الكتب، وهذا هو الذي يشهد، أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويعلم أن التوحيد الذي بعثت به الرسل أن يعبد الله وحده لا شريك له، فيعبد الله دون ما سواه. وعبادته تجمع كمال محبته وكمال الذل له ، كما قال تعالى: ويعلم أن الله ـ تعالى ـ يحب أن يعبد وحده لا شريك له، ويبغض من يجعل له أندادًا يحبونهم كحب الله، وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية كمشركي/ العرب وغيرهم، وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية، حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا: فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شىء، ما بقى عندهم من فرق من جهة الله ـ تعالى ـ بين مأمور ومحظور، فقالوا: فإن احتجوا بالقدر، فالقدر عام لا يختص بحالهم. وإن قالوا: نحن نحب هذا، ونسخط هذا، فنحن نفرق الفرق الطبيعي؛ لانتفاء الفرق من جهة الحق، قال تعالى: لا علم عندكم بانتفاء الفرق من جهة الله تعالى، والجهمية المثبتة للشرع تقول: بأن الفرق الثابت هو أن التوحيد/ قرن به النعيم، والشرك قرن به العذاب وهو الفرق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم يرجع إلي علم الله بما سيكون وإخباره، بل هؤلاء لا يرجع الفرق عندهم إلى محبة منه، لهذا وبغض لهذا. وهؤلاء يوافقون المشركين في بعض قولهم لا في كله، كما أن القدرية من الأمة ـ الذين هم مجوس الأمة ـ يوافقون المجوس المحضة في بعض قولهم لا في كله، وإلا فالرسول قد دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى محبة الله دون ما سواه، وإلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والمحبة تتبع الحقيقة فإن لم يكن المحبوب في نفسه مستحقًا أن يحب لم يجز الأمر بمحبته فضلاً عن أن يكون أحب إلينا من كل ما سواه. وإذا قيل: محبته، محبة عبادته وطاعته، قيل: محبة العبادة والطاعة فرع على محبة المعبود المطاع، وكل من لم يحب في نفسه لم تحب عبادته وطاعته؛ ولهذا كان الناس يبغضون طاعة الشخص الذي يبغضونه، ولا يمكنهم مع بغضه محبة طاعته، إلا لغرض آخر محبوب، مثل عوض يعطيهم على طاعته، فيكون المحبوب في الحقيقة هو ذلك العوض، فلا يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، إلا بمعنى أن العوض الذي يحصل من المخلوقات أحب إليهم من كل شىء. ومحبة ذلك العوض مشروط بالشعور به، فما لا يشعر به تمتنع محبته، فإذا قيل: هم قد وعدوا على محبة الله ورسوله بأن يعطوا أفضل محبوباتهم المخلوقة، / قيل: لامعنى لمحبة الله ورسوله عندكم إلا محبة ذلك العوض، والعوض غير مشعور به حتي يحب، وإذا قيل: بل إذا قال: من قال: لا يحب غيره إلا لذاته. المعنى: أنك إذا أطعتني أعطيتك أعظم ما تحبه صار محبًا لذلك الآمر له، قيل: ليس الأمر كذلك بل يكون قلبه فارغًا من محبة ذلك الآمر، وإنما هو معلق بما وعده من العوض على عمله كالفعلة الذين يعملون من البناء والخياطة والنساجة وغير ذلك ما يطلبون به أجورهم، فهم قد لا يعرفون صاحب العمل أو لا يحبونه ولا لهم غرض فيه، إنما غرضهم في العوض الذي يحبونه. وهذا أصل قول الجهمية القدرية والمعتزلة الذي ينكرون محبة الله ـ تعالى ـ ولهذا قالت المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة: إن معرفة الله وجبت لكونها لطفًا في أداء الواجبات العقلية فجعلوا أعظم المعارف تبعًا لما ظنوه واجبًا بالعقل، وهم ينكرون محبة الله والنظر إليه فضلاً عن لذة النظر. وابن عقيل لما كان في كثير من كلامه طائفة من كلام المعتزلة سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: يا هذا ! هب أن له وجهًا أفتتلذذ بالنظر إليه؟! وهذا اللفظ مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك/ الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين). وقد روى هذا اللفظ من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أظنه من رواية زيد بن ثابت ـ ومعناه في الصحيح من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة) يعني قوله: فقد أخبر أنه ليس فيما أعطوه من النعيم أحب إليهم من النظر، وإذا كان النظر إليه أحب الأشياء إليهم علم أنه نفسه أحب الأشياء إليهم، وإلا لم يكن النظر أحب أنواع النعيم إليهم، فإن محبة الرؤية تتبع محبة المرئي، وما لا يحب ولا يبغض في نفسه لا تكون رؤيته أحب إلى الإنسان من جميع أنواع النعيم. وفي الجملة، فإنكار الرؤية والمحبة والكلام ـ أيضًا ـ معروف من كلام الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، والأشعرية ومن تابعهم يوافقونهم على/ نفي المحبة ويخالفونهم في إثبات الرؤية ولكن الرؤية التي يثبتونها لا حقيقة لها. وأول من عرف عنه في الإسلام أنه أنكر أن الله يتكلم، وأن الله يحب عباده: الجعد ابن درهم، ولهذا أنكر أن يكون اتخذ الله إبراهيم خليلاً، أو كلم موسى تكليمًا، فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقوله الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه. وأما الصوفية، فهم يثبتون المحبة بل هذا أظهر عندهم من جميع الأمور، وأصل طريقتهم إنما هي الإرادة والمحبة، وإثبات محبة الله مشهور في كلام أوليهم وآخريهم، كما هو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق السلف. والمحبة جنس تحته أنواع كثيرة فكل عابد محب لمعبوده، فالمشركون يحبون آلهتهم، كما قال الله تعالى: أحدهما: يحبونهم كحب المؤمنين لله، والثاني: يحبونهم كما/ يحبون الله؛ لأنه قد قال: وقد قال: بعض من نصر القول الأول في الجواب عن حجة القول الثاني قال المفسرون: قوله: وأيضًا، فقوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} أضيف فيه المصدر إلى المحبوب المفعول، وحـذف فاعل الحب، فإما أن يراد كما يحب الله ـ من غير تعيين فاعل ـ فيبقى عامًا في حق الطائفتين، وهذا يناقض قوله: والمقصود أن المحبة تكون لما يتخذ إلها من دون الله، وقد قال تعالى: والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله، وقد يخفى الهوى على النفس فإن حبك الشىء يعمي ويصم. وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان ، أنه يعملها لله، وفي نفسه شرك قد خفى / عليه، وهو يعمله، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة، ولهذا قالوا: يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة، ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة، دخل فيها نوع من الشرك، واتباع الأهواء والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله. فقال: فكل من ادعى أنه يحب الله، ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوي اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين. وهكذا أهل البدع، فمن قال: إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد/ اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر. وأيضًا، فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله، لقوله تعالى: فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم، ومن معه، حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده، فأين هذا من حال من لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ؟! /وهؤلاء سلكوا طريق الإرادة والمحبة، مجملا من غير اعتصام بالكتاب والسنة، كما سلك أهل الكلام والرأي طريق النظر والبحث، من غير اعتصام بالكتاب والسنة، فوقع هؤلاء في ضلالات وهؤلاء في ضلالات، كما قال تعالي: وقد بسط الكلام على هذا الأصل في غير هذا الموضع. فإن قيل: صاحب الفناء في توحيد الربوبية قد شهد أن الرب خلق كل شىء، وقد يكون ممن يثبت الحكمة، فيقول: إنما خلق المخلوقات لحكمة، وهو يحب تلك الحكمة ويرضاها، وإنما خلق ما يكرهه لما يحبه، والذين فرقوا بين المحبة والإرادة، قالوا: المريض يريد الدواء ولا يحبه، وإنما يحب ما يحصل به وهو العافية وزوال المرض، فالرب تعالي خلق الأشياء كلها بمشيئته فهو مريد لكل ما خلق، ولما أحبه من الحكمة، وإن كان لا يحب بعض المخلوقات من الأعيان والأفعال، لكنه يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فالعارف إذا شهد /هذا أحب أيضًا أن يخلق لتلك الحكمة وتكون الأشياء مرادة محبوبة له كما هي للحق فهو وإن كره الكفر والفسوق والعصيان، لكن ما خلقه الله منه خلقه لحكمة، وإرادة، فهو مراد محبوب باعتبار غايته لا باعتباره في نفسه. قيل: من شهد هذا المشهد، فهو يستحسن ما حسنه الله وأحبه ورضيه، ويستقبح ما كرهه الله وسخطه، ولكن إذا كان الله خلق هذا المكروه لحكمة يحبها، فالعارف هو أيضًا يكرهه ويبغضه كما كرهه الله، ولكن يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فيكون حبه وعلمه موافقًا لعلم الله وحبه، لا مخالفًا . والله عليم حكيم، فهو يعلم الأشياء على ما هي عليه، وهو حكيم فيما يحبه ويريده، ويتكلم به وما يأمر به ويفعله، فإن كان يعلم أن الفعل الفلاني والشىء الفلاني متصف بما هو مذموم لأجله، مستحق للبغض والكراهة كان من حكمته أن يبغضه ويكرهه، وإذا كان يعلم أن في وجوده حصول حكمة محبوبة محمودة، كان من حكمته أنه يخلقه ويريده؛ لأجل تلك الحكمة المحبوبة التي هي وسيلة إلى حصوله. وإذا قيل: إن هذا الوسط يحب باعتبار أنه وسيلة إلى محبوب لذاته، ويبغض باعتبار ما اتصف به من الصفات المذمومة كان هذا حسنا كما تقول: إن الإنسان قد يبغض الدواء من وجه ويحبه من وجه، وكذلك أمور كثيرة تحب من وجه وتبغض من وجه. /وأيضًا يجب الفرق بين أن يكون مضرًا بالشخص مكروهًا له بكل اعتبار، وبين أن يكون الله خلقه لحكمة في ذلك. وإذا كان الله خلق كل شىء لحكمة له في ذلك، فإذا شهد العبد أن له حكمة ورأي هذا مع الجمع الذي يشترك فيه المخلوقات، فلا يمنعه ذلك أن يشهد ما بينهما من الفرق الذي فرق الله به بين أهل الجنة، وأهل النار، بل لابد من شهود هذا الفرق في ذلك الجمع وهذا الشهود مطابق لعلم الله وحكمته. والله أعلم. وقد قال تعالى: فلابد لمحب الله من متابعة الرسول، والمجاهدة في سبيل الله، بل هذا لازم لكل مؤمن. قال تعالى: وأما المحبة الشركية، فليس فيها متابعة للرسول، ولا بغض لعدوه ومجاهدة له، كما يوجد في اليهود والنصارى والمشركين يدعون محبة الله، ولا يتابعون الرسول، ولا يجاهدون عدوه. وكذلك أهل البدع المدعون للمحبة لهم، من الإعراض عن اتباع الرسول بحسب بدعتهم، وهذا من حبهم لغير الله، وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول، ومعاداة أعدائه، والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك. والذين ادعوا المحبة من الصوفية وكان قولهم في القدر من جنس قول الجهمية المجبرة هم في آخر الأمر، لا يشهدون للرب محبوبًا إلا ما وقع وقدر، وكل ما وقع من كفر وفسوق وعصيان فهو محبوبه عندهم، فلا يبقى في هذا الشهود فرق بين موسى، وفرعون، ولا بين محمد، وأبى جهل، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين عبادة الله وحده، وعبادة الأوثان، بل هذا كله عند الفاني في توحيد الربوبية سواء، ولا يفرق بين حادث وحادث إلا من جهة ما يهواه ويحبه، وهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه، إنما يأله ويحب ما يهواه وهو وإن كان عنده محبة لله، فقد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله، وهم /من يهواه، هذا ما دام فيه محبة لله، وقد ينسلخ منها حتي يصير إلى التعطيل، كفرعون وأمثاله الذي هو أسوء حالاً من مشركي العرب ونحوهم. ولهذا هؤلاء يحبون بلا علم، ويبغضون بلا علم، والعلم ما جاء به الرسول، كما قال: ولا يتم الإيمان والمحبة لله، إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر. ومن الإيمان بما أخبر، الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فمن نفى الصفات فقد كذب خبره. ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر وترك ما حظر، ومحبة الحسنات وبغض/ السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات، فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شىء، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). رواه مسلم. فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله، لم يكن معه من الإيمان شىء؛ ولهذا يوجد المبتدعون الذين يدعون المحبة المجملة المشتركة التي تضاهى محبة المشركين، يكرهون من ينكر عليهم شيئًا من أحوالهم، ويقولون: فلان ينكر، وفلان ينكر، وقد يبتلون كثيرًا بمن ينكر ما معهم من حق وباطل، فيصير هذا يشبه النصراني الذي يصدق بالحق والباطل، ويحب الحق والباطل، كالمشرك الذي يحب الله ويحب الأنداد، وهذا كاليهودي الذي يكذب بالحق والباطل، ويبغض الحق والباطل، فلا يحب الله، ولا يحب الأنداد، بل يستكبر عن عبادة الله، كما استكبر فرعون وأمثاله. /وهذا موجود كثيرا في أهل البدع من أهل الإرادة، والبدع من أهل الكلام، هؤلاء يقرون بالحق والباطل مضاهاة للنصارى، وهؤلاء يكذبون بالحق والباطل مضاهاة لليهود، وإنما دين الإسلام وطريق أهل القرآن والإيمان إنكار ما يبغضه الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله والتصديق بالحق، والتكذيب بالباطل، فهم في تصديقهم ومحبتهم معتدلون يصدقون بالحق، ويكذبون بالباطل، ويحبون الحق ويبغضون الباطل، يصدقون بالحق الموجود ويكذبون بالباطل المفقود، ويحبون الحق الذي يحبه الله ورسوله، وهو المعروف الذي أمر الله ورسوله به، ويبغضون المنكر الذي نهى الله ورسوله عنه، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا طريق المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، فلا يصدقون به ولا يحبونه، ولا الضالين الذين يعتقدون ويحبون مالم ينزل الله به سلطانًا. والمقصود هنا: أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى ألا يستحسنوا حسنة، ولا يستقبحوا سيئة؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورًا ولا يبغض محظورًا، فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شىئًا، كما هو قول الجهمية نفاة الصفات، وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتًا لمحبة الله ورضاه، وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات، لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئًا غير الإرادة الشاملة، وهذا وقع فيه /طوائف من مثبتة الصفات، تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية، فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات، كحال صحاب [منازل السائرين] وغيره. وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي، وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرًا من المشي مع القدر، كما مشى أصحابهم أولئك، وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقًا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين، ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي، الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو. وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك، فإن كثيرًا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل، وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور، وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان، حتى يشهد الإلهية التي تميز بين أهل التوحيد والشرك، وبين ما يحبه الله وما يبغضه، وبين /ما أمر به الرسول، وبين ما نهى عنه، وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال فيهم : وإنما يصير الرجل مسلمًا حنيفًا موحدًا إذا شهد أن لا إله إلا الله. فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحدًا في تألهه، ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه، وإسلامه له، ودعائه له، والتوكل عليه، وموالاته فيه، ومعاداته فيه، ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك، وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقًا لقوله: لا إله إلا الله، فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويثبت، ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح ـ: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي الحديث الآخر: (من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال في الصحيح: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلمًا . والله ـ تعالى ـ قد أمرنا ألا نموت إلا على الإسلام في غير موضع. كقوله تعالى:
|