الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
أحدهما: أن يكون في الآية قراءتان: قراءة من يقف على قوله: [إلا الله]، وقراءة من يقف عند قوله: وكذلك القراءة المشهورة: وأمـا مـن ترك الإنكار مطلقًا فهـو ظالم يعـذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه). وهذا الحديث موافق للآية. والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين، كما أن قوله: والجواب الثاني: القطـع بأن المتشابـه المذكور في القرآن هو تشابهها في نفسها اللازم لها، وذاك الذي لا يعلم تأويلـه إلا الله، وأمـا الإضافي الموجود في كلام من أراد به التشابـه الإضافي، فمـرادهم أنهـم تكلموا فيما اشتـبه معناه وأشكـل معناه على بعض الناس، وأن الجهمية استدلوا بما اشتبه عليهم وأشكل، وإن لم يكن هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وكثيرًا ما يشتبه على الرجل ما لا يشتبه على غيره. ويحتمل كلام الإمام أحمد أنه لم يرد إلا المتشابه في نفسه، الذي يلزمه التشابه، لم يرد بشيء منه التشابه الإضافي، وقال: تأولته على غير تأويله، أي: غير تأويله الذي هو تأويله في نفس الأمر، وإن كان ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله، وأهل العلم يعلمون أن المراد به ذلك التأويل، فلا يبقى مشكلًا عندهم محتملًا لغيره؛ ولهذا كان المتشابه في الخبريات إما عن الله، وإما عن الآخرة، وتأويل هذا كله لا يعلمه إلا الله، بل المحكم من القرآن قد يقال: له تأويل كما للمتشابه تأويل، كما قال: فقول أحمد: احتجوا بثلاث آيات من المتشابه، وقوله: ما شكت فيه من متشابه القرآن، قد يقال: إن هؤلاء أو أن أحمد جعل بعض ذلك من المتشابه وليس منه، فإن قول الله تعالى: فهذا المشتبه على بعض الناس يمكن الآخرين أن يعرفوا الحق فيه ويبينوا الفرق بين المشتبهين، وهذا هو الذي أراده من جعل الراسخين يعلمون التأويل، فإنه جعل المشتبهات في القرآن من هذا الباب الذي يشتبه على بعض الناس دون بعض، ويكون بينهما من الفروق المانعة للتشابه ما يعرفه بعض الناس. وهذا المعنى صحيح في نفسه لا ينكر. ولا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون ما اشتبه على غيرهم. وقد يكون هذا قراءة في الآية كما تقدم، من أنه يكون فيها قراءتان؛ لكن لفظ التأويل على هذا يراد به التفسير. ووجه ذلك أنهم يعلمون تأويله من حيث الجملة، كما يعلمون تأويل المحكم، فيعرفون الحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب، وغير ذلك مما أخبر الله به ورسوله معرفة مجملة، فيكونون عالمين بالتأويل، وهو ما يقع في الخارج على هذا/الوجه، ولا يعلمونه مفصلًا، إذ هم لا يعرفون كيفيته وحقيقته، إذ ذلك ليس مثل الذي علموه في الدنيا وشاهدوه، وعلى هذا يصح أن يقال: علموا تأويله، وهو معرفة تفسيره، ويصح أن يقال: لم يعلموا تأويله، وكلا القراءتين حق. وعلى قراءة النفي هل يقال ـ أيضًا ـ: إن المحكم له تأويل لا يعلمون تفصيله؟ فإن قوله: وما يعلم تأويل ما تشابه منه إلا الله لا يدل على أن غيره يعلم تأويل المحكم، بل قد يقال: إن من المحكم ـ أيضًا ـ ما لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما خص المتشابه بالذكر؛ لأن أولئك طلبوا علم تأويله، أو يقال: بل المحكم يعلمون تأويله لكن لا يعلمون وقت تأويله ومكانه وصفته. وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به، ولا يعمل به، كما يجىء في كثير من الآثار، ونعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه، وكما جاء عن ابن مسعود وغيره في قوله تعالى: فمنهم من قال: المتشابه هو المنسوخ، ومنهم من جعله الخبريات مطلقًا، فعن قتادة والربيع والضحاك والسدى: المحكم: الناسخ الذي يعمل به، والمتشابه: المنسوخ يؤمن به ولا يعمل به. وكذلك في تفسير العوفي عن ابن عباس. وأما تفسير الوالبى عن ابن عباس فقال: محكمات: القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به. والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به. أما القـول الأول، فهو ـ والله أعلم ـ مأخوذ من قوله: ومن جعل المتشابه كل ما لا يعمل به من المنسوخ، والأقسام، والأمثال؛ فلأن ذلك متشابه، ولم يؤمر الناس بتفصيله، بل يكفيهم الإيمان المجمل به، بخلاف المعمول به فإنه لابد فيه من العلم المفصل. وهذا بيان لما يلزم كل الأمة، فإنهم يلزمهم معرفة ما يعمل به تفصيلًا ليعملوا به، وما أخبروا به فليس عليهم معرفته، بل عليهم الإيمان به، وإن كان العلم به حسنًا أو فرضًا على الكفاية فليس فرضًا على الأعيان، بخلاف ما يعمل به، ففرض على كل إنسان معرفة ما يلزمه من العمل مفصلًا، وليس عليه معرفة العلميات مفصلًا. وقد روي عن مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه يصدق بعضه بعضًا. فعلى هذا القول يكون المتشابه هو المذكور في قوله: وكذلك قوله: ويجاب عن هذا بأن اللفظ إذا ذكر في موضعين بمعنيين صار من المتشابه، كقوله: [إنا] و[نحن] المذكور في سبب نزول الآية. وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر ابن الزبير ـ لما ذكر قصة أهل نجران ونزول الآية ـ قال: المحكم: ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه: ما احتمل في التأويل أوجهًا. ومعنى هذا: أن ذلك اللفظ المحكم لا يكون تأويله في الخارج إلا شيئا واحدًا، وأما المتشابه فيكون له تأويلات متعددة، لكن لم يرد الله إلا واحدًا منها، وسياق الآية يدل على المراد. وحينئذ، فالراسخون في العلم يعلمون المراد من هذا، كما يعلمون المراد من المحكم؛ لكن نفس التأويل الذي هو الحقيقة ووقت الحوادث ونحو ذلك لا يعلمونه لا من هذا ولا من هذا. وقد قيل: إن نصارى نجران احتجوا بقوله: والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين. وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر. وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيرًا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائــل الكثيــرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم: إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد ـ مع جلالة قدره ـ والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. /وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، وقوله عن الجهمية: إنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره المطابق لمعناه، فهذا محمود ليس بمذموم، وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف: إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها، بل يتلون لفظًا لا يعرفون معناه. وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما. وابن قتيبة هو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة. قال فيه صاحب كتاب [التحديث بمناقب أهل الحديث] وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفًا، وأحسنهم ترصيفًا، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد، وإسحاق، وكان معاصرًا لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهـل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه. قلت: /ويقال: هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة. وقد نقل عن ابن عباس ـ أيضًا ـ القول الآخر، ونقل ذلك عن غيره من الصحابة، وطائفة من التابعين، ولم يذكر هـؤلاء على قولهم نصًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت مسألة نزاع، فترد إلى الله وإلى الرسول، وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم ذم مبتغى المتشابه، وقال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم)، ولهذا ضرب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه، ولأنه قال: فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال: ونظير هذا قوله في الآية الأخرى: قالوا: وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب، وهي فتنتها به، ويطلبون تأويله وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء، بل هذا /لأجل الفتنة، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة، وهذا كمن يورد أسئلة وإشكالات على كلام الغير، ويقول: ماذا أريد بكذا؟ وغرضه التشكيك والطعن فيه، ليس غرضه معرفة الحق، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه)؛ ولهذا {يَتَّبِعُونَ} أي: يطلبـون المتشابـه ويقصدونه دون المحكم، مثل المتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده. وهذا فعل من قصده الفتنة، وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبه ـ وهو عالم بالمحكم متبع له، مؤمن بالمتشابه، لا يقصد فتنة ـ فهذا لم يذمه الله. وهكذا كان الصحابة يقولون ـ رضي الله عنهم ـ: مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وقد ذكره الطلمنكي: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا بقية، ثنا عتبة بن أبي حكيم، ثنى عمارة بن راشد الكناني، عن زياد، عن معاذ بن جبل قال: يقرأ القرآن رجلان: فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرًا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى. ورجل يقرؤه ليس فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به، وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن فيه فقهًا ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة، فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه. قال /بقية: أشهدني ابن عيينة حديث عتبة هذا. فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة، وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لابد أن يفقهه بفهمه المتشابه فقهًا ما فقهه قوم قط: قالوا: والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك، كما سأله عمر فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به؟ وسأله ـ أيضًا ـ عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ ولما نزل قوله: قالوا: والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفــه عند كل آية وأسأله عنها، وتلقوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبـو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القـرآن ـ عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى/يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن، إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه. وأيضًا، فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال: لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره. وهذا ـ أيضًا ـ مما يحتجون به، ويقـولون: المتشابه: أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هـذا مـا لا يشتبه على غيره، قالوا: ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونـور، ولم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا: ولأن مـن العظيم أن يقال: إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قـول هؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يـحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس. /وأيضًا، فالكـلام إنما المقصـود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك، كان عبثًا وباطلًا، والله ـ تعالى ـ قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم؟ ! وهذا من أقوى حجج الملحدين. وأيضًا، فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها، وبينوا ذلك. وإذا قيل: فقد يختلفون في بعض ذلك، قيل: كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها. وهذا ـ أيضًا ـ مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي. وأيضًا، فلفظ التأويل يكون للمحكم، كما يكون للمتشابه، كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم فكذلك معنى المتشابه. وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه وقد بين معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه، وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل به /خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة! ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله، وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره، ثم يقال: إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه؛ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه، ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران، وقد احتجوا بقوله: [إنَّا] [نَحْنُ] وبقوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} [آل عمران: 45]، {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171]، وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه، فكيف يقال: إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا أحد من السلف، وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا، وأمرنا أن نتدبره ونعقله، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور، وليس المراد من الكلام إلا معانيه، ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له. وقد قال الحسن: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها. ومن قال: إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في {الم} [آل عمران: 1]، بحساب الجمل، فهذا نقل باطل. أما أولًا: فلأنه من رواية الكلبي. /وأما ثانيًا: فهـذا قد قيـل: إنهم قالـوه في أول مَقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينـة، وسورة آل عمـران إنما نـزل صـدرها متأخـرًا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فـرض الحج، وإنما فـرض سـنة تسـع أو عشـر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين. وأما ثالثًا: فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة، ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه، بل إما أن يقال: إنه ليس مما أراده الله بكلامه، فلا يقال: إنه انفرد بعلمه، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطل، وإما أن يقال: بل يدل عليه، فقد علم بعض الناس ما يدل عليه، وحينئذ فقد علم الناس ذلك، أما دعوى دلالة القرآن على ذلك، وأن أحدًا لا يعلمه فهذا هو الباطل. وأيضًا، فإذا كانت الأمـور العلمية التي أخـبر الله بها في القـرآن لا يعرفها الرسول، كان هـذا من أعظم قدح الملاحدة فيه، وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية، أو أنه كان يعرفها ولم يبينها، بل هـذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها، فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره. وبالجملة، فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره. /نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء، فضلًا عن غيرهم، وليس ذلك في آية معينة، بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا، وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق، وتارة لعدم التدبر التام، وتارة لغير ذلك من الأسباب، فيجب القطع بأن قوله: وجاء عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب. وهذا القول يجمع القولين، ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم، وأن فيه ما لا يعلمه إلا الله، فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله: [إلا الله] وجعل التأويل بمعنى التفسير، فهذا خطأ قطعًا. /وأما التأويل بالمعنى الثالث، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فهذا الاصطلاح لم يكن بَعْدُ عُرِفَ في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمة الأربعة، ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفًا في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحـدًا منهم خص لفـظ التأويل بهـذا، ولكـن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهـذا شائعًا في عـرف كثير مـن المتأخـرين، فظنـوا أن التأويل في الآيـة هـذا معـناه، صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معانٍ تخالف ما يفهم منه، وفرقوا دينهم بعد ذلك، وصاروا شيعًا، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد، وإنما الخطأ في فهم السامع. نعم قد يقال: إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلـوب، ولكـن فـرق بين عـدم دلالتـه على المطلـوب، وبين دلالتـه على نقيض المطلـوب. فهـذا الثاني هـو المنفي، بل وليس في القـرآن مـا يـدل على الباطـل البتة، كما قد بسط في موضعه. وَلَكِنْ كثيرٌ من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى، إما معنى يعتقده، وإما معنى باطلًا فيحتاج إلى تأويله، ويكون ما قاله باطلًا لا تدل الآية على معتقده، ولا على المعنى الباطل. وهذا كثير جدًا. وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرًا ما يحتاج إلى التأويل المحدث، وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله. /ومما يحتج به من قال: الراسخون في العلم يعلمون التأويل، ما ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، فقد دعا له بعلم التأويل مطلقًا، وابن عباس فسر القرآن كله. قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وكان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله. وأيضًا، فالنقول متـواترة عـن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه تكلم في جميع معاني القرآن من الأمر والخبر، فله من الكلام في الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقصص، ومن الكلام في الأمر والنهي والأحكام ما يبين أنه كان يتكلم في جميع معاني القرآن. وأيضًا، قد قال ابن مسعود: ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت. وأيضًا، فإنهم متفقون على أن آيات الأحكام يعلم تأويلها، وهي نحو خمسمائة آية، وسائر القرآن خبر عن الله وأسمائه وصفاته، أو عن اليوم الآخر والجنة والنار، أو عن القصص، وعاقبة أهل الإيمان، وعاقبة أهل الكفر، فإن كان هذا هو المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، /فجمهور القرآن لا يعرف أحد معناه، لا الرسول ولا أحد من الأمة، ومعلوم أن هذا مكابرة ظاهرة. وأيضًا، فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به؛ فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة لا يهتدي لها جمهور الناس، بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه، فإذا كان الله قد عَلَّم عباده تأويل الأحاديث التي يَرَوْنها في المنام، فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربى المبين الذي ينزله على أنبيائه بطريق الأولى والأحرى، قال يعقوب ليوسف: وأيضًا، فقد ذم الله الكفار بقوله: /فما قاله الناس من الأقـوال المختلفة في تفسير القرآن وتأويله ليس لأحد أن يصدق بقـول دون قـول بلا علم، ولا يكذب بشيء منها، إلا أن يحيط بعلمه. وهذا لا يمكن إلا إذا عرف الحق الذي أريد بالآية، فيعلم أن ما سواه باطل، فيكذب بالباطل الذي أحاط بعلمـه، وأمـا إذا لم يعـرف معناهـا، ولم يحط بشيء منها علمًا، فلا يجوز له التكذيب بشيء منها، مع أن الأقوال المتناقضة بعضها باطل قطعًا، ويكون حينئذ المكذب بالقرآن كالمكذب بالأقوال المتناقضة، والمكذب بالحق كالمكذب بالباطل، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. وأيضًا، فإنه إن بنى على ما يعتقده من أنه لا يعلم معانى الآيات الخبرية إلا الله، لزمه أن يكذب كل من احتج بآية من القرآن خبرية على شيء من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن تكلم في تفسير ذلك. وكذلك يلزم مثل ذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وإن قال: المتشابه هو بعض الخبريات، لزمه أن يبين فصلًا يتبين به ما يجوز أن يعلم معناه من آيات القرآن، وما لا يجوز أن يعلم معناه، بحيث لا يجوز أن يعلم معناه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا أحد من الصحابة، ولا غيرهم. ومعلوم أنه لا يمكن أحدًا ذكر حد فاصل بين ما يجوز أن يعلم معناه بعض الناس، وبين ما لا يجوز أن يعلم معناه أحد، ولو ذكر ما ذكر انتقض عليه، فعلم أن المتشابه ليس هو/ الذي لا يمكن أحدًا معرفة معناه، وهذا دليل مستقل في المسألة. وأيضًا، فقوله: ويتبين هذا بوجه آخر هو دليل في المسألة، وهو أن الله ذم الزائغين بالجهل وسوء القصد، فإنهم يقصدون المتشابه يبتغون تأويله، ولا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم، وليسوا منهم، وهم يقصدون الفتنة لا يقصدون العلم والحق، وهذا كقوله تعالى: فإن قيل: فأكثر السلف على أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل، وكذلك أكثر أهل اللغة يروى هذا عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعُرْوَة، وقتادة، وعمر ابن عبد العزيز، والفراء، وأبي عبيد، وثعلب، وابن الأنباري. قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله والراسـخون في العلم. وفي قــراءة أبي وابن عباس: ويقول الراسخون في العلم، قال: وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها، كقوله تعالى: فيقال: قول القائل: إن أكثر السلف على هذا قول بلا علم، فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه. وعن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه وبمتشابهه ولا يعلمونه. فقد روى/ البخاري عن ابن أبي مُلَىْكَة، عن القاسم، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ الحديث المرفوع في هذا، وليس فيه هذه الزيادة، ولم يذكر أنه سمعها من القاسم، بل الثابت عن الصحابة أن المتشابه يعلمه الراسخون كما تقدم حديث معاذ بن جبل في ذلك، وكذلك نحوه عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم، وما ذكر من قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ليس لها إسناد يعرف حتى يحتج بها، والمعروف عن ابن مسعود أنه كان يقول: ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ عثمان ابن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. وهذا أمر مشهور رواه الناس عن عامة أهل الحديث والتفسير، وله إسناد معروف، بخلاف ما ذكر من قراءتهما. وكذلك ابن عباس قد عرف عنه أنه كان يقول: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا له بعلم تأويل الكتاب، فكيف لا يعلم التأويل مع أن قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله لا تناقض هذا القول؟ فإن نفس التأويل لا يأتي به إلا الله، كما قال تعالى: /وقد اشتهر عن عامة السلف أن الوعد والوعيد من المتشابه، وتأويل ذلك هو مجيء الموعود به، وذلك عند الله لا يأتي به إلا هو، وليس في القرآن: إن علم تأويله إلا عند الله، كما قال في الساعة: فلو كانت قراءة ابن مسعود تقتضى نفي العلم عن الراسخين لكانت: إن علم تأويله إلا عند الله، لم يقرأ: إن تأويله إلا عند الله، فإن هذا حق بلا نزاع. وأما القراءة الأخرى المروية عن أبي وابن عباس، فقد نقل عن ابن عباس ما يناقضه، وأخص أصحابه بالتفسير مجاهد، وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد. وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا/التفسير. وقول القائل: لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد جوابه: أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير، بل ليس بأيدى أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة، ثم معه ما يصدقه، وهو قوله: عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وأيضًا، فأبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قد عرف عنه أنه كان يفسر ما تشابه من القرآن، كما فسر قوله: وأما قوله: إن الله أنزل المجمل ليؤمن به المؤمن. فيقال: هذا حق، لكن هل في الكتاب والسنة أو قول أحد من السلف أن الأنبياء والملائكة والصحابة لا يفهمون ذلك الكلام المجمل؟ أم العلماء متفقون على أن المجمل في القرآن يفهم معناه ويعرف ما فيه من الإجمال، كما مثل به من وقت الساعة؟ فقد علم المسلمون كلهم معنى الكلام الذي أخبر الله به عن الساعة، وأنها آتية لا محالة، وأن الله انفرد بعلم وقتها، فلم يُطْلِع على ذلك أحدًا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم/ لما سأله السائل عن الساعة، وهو في الظاهر أعرابي لا يعرف قال له: متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) ولم يقل: إن الكلام الذي نزل في ذكرها لا يفهمه أحد، بل هذا خلاف إجماع المسلمين، بل والعقلاء؛ فإن إخبار الله عن الساعة وأشراطها كلام بين واضح يفهم معناه، وكذلك قوله: وأما ما ذكر عن عُرْوَة، فعروة قد عرف من طريقه أنه كان لا يفسر عامة أي القرآن إلا آيات قليلة رواها عن عائشة، ومعلوم أنه إذا لم يعرف عروة التفسير؛ لم يلزم أنه لا يعرفه غيره من الخلفاء الراشدين، وعلماء الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وغيرهم. وأمـا اللغـويون الذين يقـولون: إن الراسخين لا يعلمون معنى المتشابه فهم متناقضـون في ذلك، فـإن هـؤلاء كلهم يتكلمون في تفسير كل شيء في القرآن، ويتوسعون في القول في ذلك، حتى مــا منهم أحـد إلا وقــد قـال في ذلك أقـوالا لم يُسـبق إليها، وهي خطأ. وابن الأنبارى الذي/ بالغ في نصر ذلك القول هو من أكثر الناس كلامًا في معانى الآي المتشابهات، يذكر فيها من الأقوال ما لم ينقل عن أحد من السلف، ويحتج لما يقوله في القرآن بالشاذ من اللغة، وقصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة، وليس هو أعلم بمعانى القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة، ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة؛ لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة. وقد نقم هو وغيره على ابن قتيبة كونه رد على أبي عبيد أشياء من تفسيره غريب الحديث، وابن قتيبة قد اعتذر عن ذلك، وسلك في ذلك مسلك أمثاله من أهل العلم، وهو وأمثاله يصيبون تارة، ويخطؤون أخرى، فإن كان المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فهم كلهم يجترئون على الله، يتكلمون في شيء لا سبيل إلى معرفته، وإن كان ما بينوه من معاني المتشابه قد أصابوا فيه ـ ولو في كلمة واحدة ـ ظهر خطؤهم في قولهم: إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، ولا يعلمه أحد من المخلوقين، فليختر من ينصر قولهم هذا أو هذا. ومعلوم أنهم أصابوا في شيء كثير مما يفسرون به المتشابه، وأخطؤوا في بعض ذلك، فيكون تفسيرهم هذه الآية مما أخطؤوا فيه العلم اليقيني، فإنهم أصابوا في كثير من تفسير المتشابه، وكذلك ما نقل عن قتادة من أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، فكتابه/ في التفسير من أشهر الكتب، ونقله ثابت عنه من رواية معمر عنه، ورواية سعيد بن أبي عَرُوَبة عنه؛ ولهذا كان المصنفون في التفسير عامتهم يذكرون قوله لصحة النقل عنه، ومع هذا يفسر القرآن كله محكمه ومتشابهه. والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع كالجهمية والقدرية من المعتزلة وغيرهم، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد، وهذا أصل معروف لأهل البدع، أنهم يفسرون القـرآن برأيهم العقـلي، وتأويلهم اللغوي، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقـدر على غير ما أراده الله ورسوله، فإنكار السلف والأئمة هو لهذه التأويلات الفاسـدة، كما قال الإمـام أحمـد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيـه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل. فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها، وبما يخالفها ظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم /معناه إلا الله، ثم يتناقضون في ذلك من وجوه: أحدها: أنهم يقولون: النصوص تجري على ظواهرها، ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها؛ ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر، ويقرون المعنى الظاهر، ويقولون مع هذا: إن له تأويلًا لا يعلمه إلا الله، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر، وقد قرر معناه الظاهر؟ ! وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم، حتى أنكر ذلك ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى. ومنها: أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم، لا في مسألة أصلية، ولا فرعية، إلا تأولوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات الجهمية والقدرية للنصوص التي تخالفهم، فأين هذا من قولهم: لا يعلم معانى النصوص المتشابهة إلا الله تعالى؟ ! واعتبر هذا بما تجده في كتبهم من مناظرتهم للمعتزلة في مسائل الصفات والقرآن والقدر، إذا احتجت المعتزلة على قولهم بالآيات التي تناقض قول هؤلاء، مثل أن يحتجوا بقوله: وهذا أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارًا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة ـ لما صنف كتابه في [الرد على الزنادقة والجهمية] فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم على معانى المتشابه الذي اتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله آية آية، وبين معناها، وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أن الله يرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبين معانى الآيات التي سـماها هو متشابهـة، وفسـرها آية آية. وكـذلك لما ناظـروه واحتجـوا عليـه بالنصـوص جعـل يفسـرهـا آيـة آية، وحديـثًا حـديثًا، ويبين فسـاد ما تأولها عليـه الزائغـون، ويبين هـو معناهـا، ولـم يقـل أحمـد: إن هـذه الآيـات والأحاديث لا يفـهم معناهـا إلا الله، ولا قال أحـد لـه ذلك، بـل الطـوائف كلهـا مجتمعـة على إمكـان معرفـة معنـاهـا، لكـن يتنازعـون في المـراد كـما يتنـازعون في آيات الأمــر والنهي، وكـذلك كـان أحمد يفسر المتشابـه مـن الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون مـن الخـوارج /وغيرهم. كقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن) وأمثال ذلك. ويبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج المعتزلة وكل هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها، ولم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من هؤلاء ـ لما يستدل به هو، أو يستدل به على منازعه: هذه آيات وأحاديث لا يعلم معناها أحد من البشر، فأمسكوا عن الاستدلال بها. وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين، والذين بلغهم الصحابة معانى القرآن، كما بلغوهم ألفاظه، ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، لكن أهل البدع بتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون، وهم مبطلون في ذلك، لا سيما تأويلات القرامطة والباطنية الملاحدة، وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم . ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل، وإنما غايتهم أن يقولوا: ظاهر هذه الآية غير مراد، ولكن يحتمل أن يراد كذا، وأن يراد كذا، ولو تأولها الواحد منهم بتأيل معين، فهو لا يعلم أنه /مراد الله ورسوله، بـل يجـوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك، كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب، كما يذكرونه في قوله:
|