الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
نزاع الناس في معنى [حديث النزول]، وما أشبهه في الكتاب والسنة من الأفعال اللازمة المضافة إلى الرب ـ سبحانه وتعالى ـ مثل المجيء، والإتيان، والاستواء إلى السماء وعلى العرش، بل وفي الأفعال المتعدية مثل الخلق، والإحسان، والعدل وغير ذلك ـ هو ناشئ عن نزاعهم في أصلين: أحدهما: أن الرب ـ تعالى ـ هل يقوم به فعل من الأفعال؛ فيكون خلقه للسموات والأرض فعلًا فعله غير المخلوق، أو أن فعله هوالمفعول، والخلق هوالمخلوق؟ على قولين معروفين: والأول: هو المأثور عن السلف، وهو الذي ذكره البخاري في [كتاب خلق أفعال العباد] عن العلماء مطلقًا، ولم يذكر فيه نزاعًا، وكذلك ذكر البغوي وغيره مذهب أهل السنة، وكذلك ذكره أبو علي الثقفي والضُّبَعِي وغيرهما من أصحاب ابن خزيمة في [العقيدة] التي اتفقوا هم وابن خزيمة على أنها مذهب أهل السنة، وكذلك ذكره الكلاباذي في كتاب[التعرف لمذهب/ التصوف] أنه مذهب الصوفية وهو مذهب الحنفية وهو مشهور عندهم، وبعض المصنفين في [الكلام] كالرازي ونحوه ينصب الخلاف في ذلك معهم، فيظن الظان أن هذا مما انفردوا به، وهو قول السلف قاطبة، وجماهير الطوائف، وهو قول جمهور أصحاب أحمد، متقدميهم كلهم وأكثر المتأخرين منهم، وهو أحد قولي القاضي أبي يعلى. وكذلك هو قول أئمة المالكية والشافعية وأهل الحديث وأكثر أهل الكلام، كالهشامية أوكثير منهم،والكرامية كلهم، وبعض المعتزلة وكثير من أساطين الفلاسفة، متقدميهم ومتأخريهم. وذهب آخرون من أهل الكلام الجهمية، وأكثر المعتزلة والأشعرية، إلى أن الخلق هو نفس المخلوق، وليس للّه عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات أنفسها، وهو قول طائفة من الفلاسفة المتأخرين؛ إذ قالوا بأن الرب مبدع كابن سينا وأمثاله. والحجة المشهورة لهؤلاء المتكلمين: أنه لو كان خلق المخلوقات بخلق، لكان ذلك الخلق إما قديمًا وإما حادثًا. فإن كان قديمًا لزم قدم كل مخلوق، وهذا مكابرة. وإن كان حادثًا، فإن قام بالرب لزم قيام الحوادث به، وإن لم يقم به كان الخلق قائمًا بغير الخالق، وهذا ممتنع. وسواء قام به أو لم يقم به، يفتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر، ويلزم التسلسل، هذا عمدتهم. وجواب السلف والجمهورعنها بمنع مقدماتها، كل طائفة تمنع مقدمة، ويلزمهم ذلك إلزامًا لا محيد لهم عنه. /أما الأولى: فقولهم: لو كان قديمًا لزم قدم المخلوق، يمنعهم ذلك من يقول: بأن الخلق فعل قديم يقوم بالخالق، والمخلوق مُحدَث، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والحنفية والحنبلية والشافعية والمالكية والصوفية وأهل الحديث، وقالوا: أنتم وافقتمونا على أن إرادته قديمة أزلية مع تأخر المراد، كذلك الخلق هو قديم أزلي وإن كان المخلوق متأخرًا. ومهما قلتموه في الإرادة ألزمناكم نظيره في الخلق. وهذا جواب إلزامي جدلي لا حيلة لهم فيه. وأما المقدمة الثانية: وهي قولهم: لوكان حادثا قائما بالرب، لزم قيام الحوادث وهو ممتنع، فقد منعهم ذلك السلف وأئمة أهل الحديث، وأساطين الفلاسفة وكثير من متقدميهم ومتأخريهم، وكثير من أهل الكلام، كالهشامية والكرامية، وقالوا: لا نسلم انتفاء اللازم، وسيأتي الكلام إن شاء اللّه ـ تعالى ـ على ذلك في [الأصل الثاني]. وأماالثالث: فقولهم: إن لم تقم به فهو محال، فهذا لم يمنعهم إياه إلا طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، فمنهم من قال: بل الخلق يقوم بالمخلوق، ومنهم من يقول: بل الخلق ليس في محل، كما تقول المعتزلة البصريون: فعل بإرادة لا في محل، وهذا ممتنع لا أعرفه عن أحد من السلف وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة. /وأما المقدمة الرابعة وهي قولهم: الخلق الحادث يفتقر إلى خلق آخر، فقد منعهم من ذلك عامة من يقول بخلق حادث من أهل الحديث والكلام والفلسفة والفقه والتصوف وغيرهم، كأبي معاذ التومني، وزهير الإبرى، والهشامية، والكرامية، وداود بن على الأصبهاني، وأصحابه، وأهل الحديث، والسلف الذين ذكرهم البخاري وغيره، وقالوا: إذا خلق السموات والأرض بخلق، لم يلزم أن يحتاج ذلك الخلق إلى خلق آخر، ولكن ذلك الخلق يحصل بقدرته ومشيئته، وإن كان ذلك الخلق حادثا. والدليل على فساد إلزامهم: أن الحادث إما أن يكفي في حصوله القدرة والمشيئة، وإما ألا يكفي. فإن لم يكف ذلك،بطل قولهم: إن المخلوقات تحدث بمجرد القدرة والإرادة بلا خلق، وإذا بطل قولهم، تبين أنه لابد للمخلوق من خالق خلقه، وهو المطلوب. وإن كفي في حصول المخلوق القدرة والمشيئة، جاز حصول هذا الخلق الذي يخلق به المخلوقات بالقدرة والمشيئة، ولم يحتج إلى خلق آخر، فتبين أنه على كل تقدير، لا يلزم أن يقال: خلقت المخلوقات بلا خلق، بل يجوز أن يقال: خلقت بخلق، وهو المطلوب. وتبين أن النفاةليس لهم قط حجة مبنية على مقدمة إلا وقد نقضوا تلك المقدمة في موضع آخر، فمقدمات حجتهم كلها منتقضة. وأيضا، فمن المعقول أن المفعول المنفصل الذي يفعله الفاعل لا يكون إلا / بفعل يقوم بذاته. وأما نفس فعله القائم بذاته فلا يفتقر إلى فعل آخر، بل يحصل بقدرته ومشيئته؛ ولهذا كان القائلون بهذا يقولون: إن الخلق حادث، ولا يقولون: هو مخلوق، وتنازعوا هل يقال: إنه محدث؟ على قولين. وكذلك يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه هو حديث، وهو أحسن الحديث، وليس بمخلوق باتفاقهم، ويسمى حديثًا وحادثًا. وهل يسمى محدثًا؟ على قولين لهم. ومن كان من عادته أنه لا يطلق لفظ المحدث إلا على المخلوق المنفصل ـ كما كان هذا الاصطلاح هوالمشهور عند المتناظرين الذين تناظروا في القرآن في محنة الإمام أحمد ـ رحمه اللّه ـ وكانوا لايعرفون للمحدث معنى إلا المخلوق المنفصل ـ فعلى هذا الاصطلاح لا يجوز عند أهل السنة أن يقال: القرآن محدث، بل من قال: إنه محدث، فقد قال: إنه مخلوق. ولهذا أنكر الإمام أحمد هذا الإطلاق على [داود] لما كتب إليه أنه تكلم بذلك، فظن الذين يتكلمون بهذا الاصطلاح أنه أراد هذا فأنكره أئمة السنة. وداود نفسه لم يكن هذا قصده، بل هو وأئمة أصحابه متفقون على أن كلام اللّه غير مخلوق، وإنما كان مقصوده أنه قائم بنفسه، وهو قول غير واحد من أئمة السلف، وهو قول البخاري وغيره. والنزاع في ذلك بين أهل السنة لفظي؛ فإنهم متفقون على أنه ليس بمخلوق منفصل، ومتفقون على أن كلام اللّه قائم بذاته، وكان أئمة السنة،/ كأحمد وأمثاله، والبخاري وأمثاله، وداود وأمثاله، وابن المبارك وأمثاله، وابن خزيمة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن أبي شيبة وغيرهم، متفقين على أن اللّه يتكلم بمشيئته وقدرته، ولم يقل أحد منهم: إن القرآن قديم، وأول من شهر عنه أنه قال ذلك هو ابن كُلاب. وكان الإمام أحمد يحذر من الكُلابية، وأمر بهجر الحارث المحاسبي لكونه كان منهم، وقد قيل عن الحارث: إنه رجع في القرآن عن قول ابن كُلاب، وإنه كان يقول: إن اللّه يتكلم بصوت. وممن ذكر ذلك عنه الكلاباذي في كتاب [التعرف لمذهب التصوف]. والمقصود هنا أن قول القائل: لو كان خلقه للأشياء ليس هو الأشياء، لافتقر الخلق إلى خلق آخر فيكون الخلق مخلوقًا ـ ممنوع، بل الخلق يحصل بقدرة الرب ومشيئته، والمخلوق يحصل بالخلق. وأما المقدمة الخامسة: وهو أن ذلك يفضى إلى التسلسل، فهذه المقدمة تقال على وجهين: أحدهما: أن الخلق يفتقر إلى خلق آخر، وذلك الخلق إلى خلق آخر، كما تقدم. والثاني: أن يقال: هب أنه لا يفتقر إلى خلق، لكن يفتقر إلى سبب يحصل به الخلق، وإن لم يسم ذلك خلقا، وذلك السبب إنما تم عند وجود /الخلق، فتمامه حادث، وكل حادث فلابد له من سبب؛ إذ لو كان ذلك الخلق لا يفتقر إلى سبب حادث للزم وجود الحادث بلا سبب حادث. وإن قيل: إن السبب التام قديم، لزم من ذلك تأخر المسبب عن سببه التام، وهذا ممتنع. وهنا للقائلين بأن الخلق غير المخلوق وإن الخلق حادث أربعة أجوبة: أحدها: قول من يقول: الخلق الحادث لا يفتقر إلى سبب حادث لا إلى خلق ولا إلى غيره، قالوا: أنتم يا معشر المنازعين كلكم يقول:إنه قد يحدث حادث بلا سبب حادث، فإنه من قال: المخلوق غير الخلق، فالمخلوقات كلها حادثة عنده بلا سبب حادث، ومن قال: الخلق قديم، فلا ريب أن القديم لا اختصاص له بوقت معين، فالمخلوق الحادث في وقته المعين له لم يحصل له سبب حادث. قالوا: وإذا كان هذا لازمًا على كل تقدير، لم يخص بجوابه، بل نقول: المخلوق حدث بالخلق، والخلق حصل بقدرة اللّه ومشيئته القديمة من غير افتقار إلى سبب آخر، وهذا قول كثير من الطوائف من أهل الحديث والكلام كالكرامية وغيرهم. الجواب الثاني: قول من يقول من المعتزلة: إن الخلق الحادث قائم بالمخلوق أو قائم لا بمحل، كما يقولون في الإرادة إنها حادثة لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها، بل إحداثها بمجرد القدرة. /الجواب الثالث: جواب معمر وأصحابه الذين يسمون [أهل المعاني]، فإنهم يقولون بالتسلسل في آن واحد، فيقولون: إن الخلق له خلق وللخلق خلق، وللخلق خلق آخر، وهلم جرًا لا إلى نهاية، وذلك موجود كله في آن واحد، وهذا مشهور عنهم. والجواب الرابع: قول من يقول: الخلق الحادث يفتقر إلى سبب حادث، وكذلك ذلك السبب، وهلم جرا. وهذا يستلزم دوام نوع ذلك، وهذا غير ممتنع؛ فإن مذهب السلف: أن اللّه لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكلماته لا نهاية لها، وكل كلام مسبوق بكلام قبله لا إلى نهاية محدودة، وهو سبحانه يتكلم بقدرته ومشيئته. وكذلك يقولون: الحي لا يكون إلا فعالًا، كما قاله البخاري، وذكره عن نعيم بن حماد، وعثمان بن سعيد، وابن خزيمة وغيرهم، ولا يكون إلا متحركًا، كما قال عثمان ابن سعيد الدارمي وغيره، وكل منهما يذكر أن ذلك مذهب أهل السنة، وهكذا يقول ذلك من أساطين الفلاسفة من ذكر قوله بذلك في غير هذا الموضع من متقدميهم ومتأخريهم. قالوا: وهذا تسلسل في الآثار والبرهان، إنما دل على امتناع التسلسل في المؤثرين، فإن هذا مما يعلم فساده بصريح المعقول، وهو مما اتفق العقلاء على امتناعه، كما بسط الكلام عليه في موضع آخر. /فأما كونه ـ سبحانه وتعالى ـ يتكلم كلمات لا نهاية لها وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، فهذا هو الذي يدل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، والفلاسفة توافق على دوام هذا النوع. وقدماء أساطينهم يوافقون على قيام ذلك بذات اللّه كما يقوله أئمة المسلمين وسلفهم. والذين قالوا: إن ذلك ممتنع هم أهل الكلام المحدث في الإسلام من الجهمية والمعتزلة، وهم الذين استدلوا على حدوث كل ما تقوم به الحوادث بامتناع حوادث لا أول لها. ومن هنا يظهر الأصل الثاني ـ الذي تبنى عليه أفعال الرب ـ تعالى ـ اللازمة والمتعدية: وهو أنه ـ سبحانه ـ هل تقوم به الأمورالاختيارية المتعلقة بقدرته ومشيئته أو لا؟ فمذهب السلف وأئمة الحديث وكثير من طوائف الكلام والفلاسفة جواز ذلك. وذهب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة، والكلابية من مثبتة الصفات إلى امتناع قيام ذلك به. أما نفاة الصفات: فإنهم ينفون هذا وغيره، ويقولون: هذا كله أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام محدثة، فلو قامت به الصفات، لكان محدثًا. أما الكلابية: فإنهم يقولون: نحن نقول: تقوم به الصفات ولا نقول: هي أعراض، فإن العرض لا يبقى زمانين، وصفات الرب ـ تبارك وتعالى ـ عندنا باقية بخلاف الأعراض القائمة بالمخلوقات؛ فإن الأعراض عندنا لا تبقى زمانين. /وأما جمهور العقلاء، فنازعوهم في هذا، وقالوا: بل السواد والبياض الذي كان موجودًا من ساعة هو هذا السواد بعينه، كما قد بسط في غير هذا الموضع؛ إذ المقصود هنا التنبيه على مقالات الطوائف في هذا الأصل. قالت الكلابية: وأما الحوادث فلو قامت به، للزم ألا يخلو منها، فإن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده. وإذا لم يخل منها لزم أن يكون حادثا، فإن هذا هو الدليل على حدوث الأجسام. هذا عمدتهم في هذا الأصل، والذين خالفوهم قد يمنعون المقدمتين كليهما، وقد يمنعون واحدة منهما. وكثير من أهل الكلام والحديث منعوا الأولى؛ كالهشامية والكرامية، وأبى معاذ وزهير الإبَرِيَّ، وكذلك الرازي، والأمدي، وغيرهما من الأشعرية، منعوا المقدمة الأولى وبينوا فسادها، وأنه لا دليل لمن ادعاها على دعواه. بل قد يكون الشيء قابلًا للشيء وهو خال منه ومن ضده، كما هو الموجود؛ فإن القائلين بهذا الأصل التزموا أن كل جسم له طعم ولون وريح، وغير ذلك من أجناس الأعراض التي تقبلها الأجسام. فقال جمهور العقلاء: هذا مكابرة ظاهرة، ودعوى بلا حجة، وإنما التزمته الكلابية لأجل هذا الأصل. وأما المقدمة الثانية: وهو منع دوام نوع الحادث، فهذه يمنعها أئمة السنة والحديث، القائلين بأن اللّه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، والقائلين بأنه لم يزل فعالًا، كما يقوله البخاري وغيره، والذين يقولون:/ الحركة من لوازم الحياة فيمتنع وجود حياة بلا حركة أصلًا؛ كما يقول الدارمي وغيره. وقد روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عـن جعفـر بـن محمـد الصادق - رضى الله عنه ـ: أنه سئل عن قوله تعالى: وقال ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ في قوله تعالى: ويمنعها ـ أيضا ـ جمهور الفلاسفة، ولكن الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية يقولون بامتناعها، وهي من الأصول الكبار التي يبتنى عليها الكلام في كلام اللّه ـ تعالى ـ وفي خلقه. وهذا القول هو أصل الكلام المحدث في الإسلام الذي ذمه السلف والأئمة؛ فإن أصحاب هذا الكلام في الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم، ظنوا أن معنى كون اللّه خالقًا لكل شيء ـ كما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم ـ أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لم يزل معطلًا /لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بشيء أصلًا، بل هو وحده موجود بلا كلام يقوله، ولا فعل يفعله. ثم إنه أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته المنفصلة عنه، فأحدث العالم. وظنوا أن ما جاءت به الرسل واتفق عليه أهل الملل ـ من أن كل ما سوى اللّه مخلوق، واللّه خالق كل شيء ـ هذا معناه، وأن ضد هذا قول من قال بقدم العالم أو بقدم مادته، فصاروا في كتبهم الكلامية لا يذكرون إلا قولين: أحدهما: قول المسلمين وغيرهم من أهل الملل: أن العالم محدث، ومعناه عندهم ما تقدم. والثاني: قول الدهرية الذين يقولون: العالم قديم، وصاروا يحكون في كتب الكلام والمقالات: أن مذهب أهل الملل قاطبة من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم أن اللّه كان فيما لم يزل لا يفعل شيئًا، ولا يتكلم بشيء، ثم إنه أحدث العالم، ومذهب الدهرية: أن العالم قديم. والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له؛ فينكرون الصانع جل جلاله. وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم [أرسطو] صاحب التعاليم الفلسفية؛ المنطقي والطبيعي والإلهي. وأرسطو وأصحابه القدماء يثبتون في كتبهم العلة الأولى، ويقولون: إن الفلك يتحرك للتشبه بها؛ فهي علة له بهذا الاعتبار، إذ لولا وجود من تشبه به الفلك لم يتحرك، وحركته / من لوازم وجوده، فلو بطلت حركته لفسد. ولم يقل أرسطو: إن العلة الأولى أبدعت الأفلاك، ولا قال: هو موجب بذاته، كما يقوله من يقول من متأخري الفلاسفة؛ كابن سينا وأمثاله، ولا قال: إن الفلك قديم وهو ممكن بذاته؛ بل كان عندهم ما عند سائر العقلاء أن الممكن هوالذي يمكن وجوده وعدمه، ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثًا، والفلك عندهم ليس بممكن بل هو قديم لم يزل، وحقيقة قولهم إنه واجب لم يزل ولا يزال. فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم، إلا عمن ينكر الصانع، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة؛ كابن سينا وأمثاله، أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولا آخر للقائلين بقدم العالم، أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا أيضًا يطلقون ألفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي، لا يريدون بذلك أن اللّه أحدث شيئًا بعد أن لم يكن، وإذا قالوا: إن اللّه خالق كل شيء، فهذا معناه عندهم، فصار المتأخرون من المتكلمين يذكرون هذا القول، والقول المعروف عن أهل الكلام في معنى حدوث العالم الذي يحكونه عن أهل الملل كما تقدم، كما يذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم. وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام، من امتناع / دوام فعل اللّه، وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين، فقالوا: الأجسام لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث؛ لأن ما لا يخلو عنها ولا يسبقها يكون معها أو بعدها، وما كان مع الحوادث أو بعدها فهو حادث. وكثير منهم لا يذكر على ذلك دليلًا لكون ذلك ظاهرًا؛ إذ لم يفرقوا بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين، لكن من تفطن منهم للفرق، فإنه يذكر دليلًا على ذلك بأن يقول: الحوادث لا تدوم بل يمتنع وجود حوادث لا أول لها. ومنهم من يمنع أيضًا وجود حوادث لا آخر لها، كما يقول ذلك إماما هذا الكلام: الجهم بن صفوان وأبو الهذيل. ولما كان حقيقة هذا القول أن اللّه ـ سبحانه ـ لم يكن قادرًا على الفعل في الأزل، بل صار قادرًا على الفعل بعد أن لم يكن قادرًا عليه، كان هذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء، حتى إنه كان من البدع التي ذكروها؛ من بدع الأشعري في الفتنة التي جرت بخراسان لما أظهروا لعنة أهل البدع، والقصة مشهورة. ثم إن أهل الكلام وأئمتهم ـ كالنظام والعلاف وغيرهما من شيوخ المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من سائر الطوائف ـ يقولون: إن دين الإسلام إنما يقوم على هذا الأصل، وإنه لا يعرف أن محمدًا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلا بهذا / الأصل؛ فإن معرفة الرسول متوقفة على معرفة المرسل، فلابد من إثبات العلم بالصانع أولا، ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجور عليه. قالوا: وهذا لا يمكن معرفته إلا بهذه الطريقة، فإنه لا سبيل إلى معرفة الصانع فيما زعموا إلا بمعرفة مخلوقاته، ولا سبيل إلى معرفة حدوث المخلوقات إلا بهذه الطريق فيما زعموا، ويقول أكثرهم: أول ما يجب على الإنسان معرفة اللّه، ولا يمكن معرفته إلا بهذا الطريق. ويقول كثير منهم: إن هذه طريقة إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ المذكورة في قوله: قالوا: ولهذا يجب تأويل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفًا لذلك من وصف الرب بالإتيان والمجيء والنزول وغير ذلك؛ فإن كونه نبيًا لم يعرف إلا بهذا الدليل العقل، فلو قدح في ذلك لزم القدح في دليل نبوته فلم يعرف أنه رسول اللّه، وهذا ونحوه هو الدليل العقلي الذي يقولون: إنه عارض السمع والعقل. ونقول: إذا تعارض السمع والعقل امتنع تصديقهما وتكذيبهما وتصديق السمع دون العقل؛ لأن العقل هو أصل السمع، فلو جرح أصل الشرع كان جرحًا له. ولأجل هذه الطريق أنكرت الجهمية والمعتزلة الصفات والرؤية، وقالوا:/القرآن مخلوق؛ ولأجلها قالت الجهمية بفناء الجنة والنار؛ ولأجلها قال العلاف بفناء حركاتهم؛ ولأجلها فرّع كثير من أهل الكلام، كما قد بسط في غير هذا الموضع. فقال لهم الناس: أما قولكم: إن هذه الطريق هي الأصل في معرفة دين الإسلام ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإنه من المعلوم لكل من علم حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء به من الإيمان والقرآن، أنه لم يدع الناس بهذه الطريق أبدًا، ولا تكلم بها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، فكيف تكون هي أصل الإيمان؟! والذي جاء بالإيمان وأفضل الناس أيمانًا لم يتكلموا بها البتة، ولا سلكها منهم أحد. والذين علموا أن هذه طريق مبتدعة حزبان: حزب ظنوا أنها صحيحة في نفسها، لكن أعرض السلف عنها لطول مقدماتها وغموضها، وما يخاف على سالكها من الشك والتطويل. وهذا قول جماعة كالأشعري في رسالته إلى الثغر، والخطابي والحليمي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء. والثاني : قول من يقول: بل هذه الطريقة باطلة في نفسها؛ ولهذا ذمها السلف، وعدلوا عنها. وهذا قول أئمة السلف كابن المبارك، والشافعي، وأحمد/ بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي يوسف، ومالك بن أنس، وابن الماجشون عبد العزيز، وغير هؤلاء من السلف. وحفص الفرد لما ناظر الشافعي في مسألة القرآن ـ وقال: القرآن مخلوق، وكفَّره الشافعي ـ كان قد ناظره بهذه الطريقة. وكذلك أبو عيسى ـ محمد بن عيسى برغوث ـ كان من المناظرين للإمام أحمد بن حنبل في مسألة القرآن بهذه الطريقة. وقد ذكر الإمام أحمد في رده على الجهمية مما عابه عليهم أنهم يقولون: إن اللّه لا يتكلم ولا يتحرك. وأما عبد اللّه بن المبارك، فكان مبتلى بهؤلاء في بلاده، ومذهبه في مخالفتهم كثير وكذلك الماجشون في الرد عليهم، وكلام السلف في الرد على هؤلاء كثير، وقال لهم الناس: إن هذا الأصل الذي ادعيتم إثبات الصانع به، وإنه لا يعرف أنه خالق للمخلوقات إلا به، هو بعكس ما قلتم، بل هذا الأصل يناقض كون الرب خالقًا للعالم، ولا يمكن مع القول به القول بحدوث، العالم ولا الرد على الفلاسفة. فالمتكلمون الذين ابتدعوه وزعموا أنهم به نصروا الإسلام، وردوا به على أعدائه كالفلاسفة، لا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل كان ما ابتدعوه مما أفسدوا به حقيقة الإسلام على من اتبعهم، فأفسدوا عقله ودينه،/واعتدوا به على من نازعهم من المسلمين، وفتحوا لعدو الإسلام بابًا إلى مقصوده. فإن حقيقة قولهم ـ إن الرب لم يكن قادرًا، ولا كان الكلام والفعل ممكنًا له، ولم يزل كذلك دائما مدة، أو تقدير مدة لا نهاية لها، ثم إنه تكلم وفعل من غير سبب اقتضى ذلك، وجعلوا مفعوله هو فعله، وجعلوا فعله وإرادة فعله قديمة أزلية والمفعول متأخرًا، وجعلوا القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ـ وكل هذا خلاف المعقول الصريح وخلاف الكتاب والسنة، وأنكروا صفاته ورؤيته، وقالوا:كلامه مخلوق، وهو خلاف دين الإسلام. والذين اتبعوهم وأثبتوا الصفات قالوا: يريد جميع المرادات بإرادة واحدة، وكل كلام تكلم به أو يتكلم به إنما هو شيء واحد لا يتعدد ولا يتبعض، وإذا رُؤى رُؤى لابمواجهة، ولا بمعاينة، وإنه لم يسمع ولم ير الأشياء حتى وجدت، ثم لما وجدت لم يقم به أمر موجود، بل حاله قبل أن يسمع ويبصر كحاله بعد ذلك، إلى أمثال هذه الأقوال التي تخالف المعقول الصريح والمنقول الصحيح. ثم لما رأت الفلاسفة أن هذا مبلغ علم هؤلاء، وأن هذا هو الإسلام الذي عليه هؤلاء، وعلموا فساد هذا ـ أظهروا قولهم بقدم العالم، واحتجوا بأن تجدد الفعل بعد أن لم يكن ممتنع، بل لابد لكل متجدد من سبب حادث،/وليس هناك سبب، فيكون الفعل دائما، ثم ادعوا دعوى كاذبة لم يحسن أولئك أن يبينوا فسادها وهو: أنه إذا كان دائمًا، لزم قدم الأفلاك والعناصر. ثم إنهم لما أرادوا تقرير [النبوة] جعلوها فيضًا يفيض على نفس النبي من العقل الفعال أو غيره،من غير أن يكون رب العالمين يعلم له رسولا معينا، ولا يميز بين موسى وعيسى ومحمد ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ ولا يعلم الجزئيات، ولا نزل من عنده ملك، بل جبريل هو خيال يتخيل في نفس النبي أو هو العقل الفعال، وأنكروا أن تكون السموات والأرض خلقت في ستة أيام، وأن السموات تنشق وتنفطر، وغير ذلك مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم. وزعموا أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أراد به خطاب الجمهور، مما يخيل إليهم بما ينتفعون به من غير أن يكون الأمر في نفسه كذلك، ومن غير أن تكون الرسل بينت الحقائق، وعلمت الناس ما الأمر عليه. ثم منهم من يفضل الفيلسوف على النبي صلى الله عليه وسلم. وحقيقة قولهم: إن الأنبياء كذبوا لما ادعوه من نفع الناس، وهل كانوا جهالا؟ على قولين لهم. إلى غير ذلك من أنواع الإلحاد و الكفر الصريح والكذب البين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين. /وقد بين في غير هذا الموضع أن هؤلاء أكفر من اليهود و النصارى بعد النسخ والتبديل، وإن تظاهروا بالإسلام؛ فإنهم يظهرون من مخالفة الإسلام أعظم مما كان يظهره المنافقون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقد قال حذيفة بن اليمان ـ رضي اللّه عنه ـ: المنافقون اليوم شر من المنافقين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. قيل: ولم ذلك؟ قال: لأنهم كانوا يسرون نفاقهم، وهم اليوم يعلنونه. ولم يكن على عهد حذيفة من وصل إلى هذا النفاق ولا إلى قريب منه؛ فإن هؤلاء إنما ظهروا في الإسلام في أثناء [الدولة العباسية] وآخر [الدولة الأموية] لما عربت الكتب اليونانية ونحوها، وقد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: أن هؤلاء المتكلمين الذين زعموا أنهم ردوا عليهم، لم يكن الأمر كما قالوه، بل هم فتحوا لهم دهليز الزندقة؛ ولهذا يوجد كثير ممن دخل في هؤلاء الملاحدة إنما دخل من باب أولئك المتكلمين، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما. وإذا قام من يرد على هؤلاء الملاحدة فإنهم يستنصرون ويستعينون بأولئك المتكلمين المبتدعين، ويعينهم أولئك على من ينصر اللّه ورسوله، فهم جندهم على محاربة اللّه ورسوله كما قد وجد ذلك عيانًا. ودعواهم أن هذه طريقة إبراهيم الخليل في قوله: وهذا مما ينحل به الإشكال الوارد على الآية في طلوع الشمس بعد أفول القمر، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يقل: لكن الحق أن إبراهيم لم يقصد هذا، ولا كان قوله: {هَـذَا رَبِّي} [الأنعام:77] إنه رب العالمين، ولا اعتقد أحد من بني آدم أن كوكبًا من الكواكب خلق السموات والأرض، وكذلك الشمس والقمر، ولا كان المشركون قوم إبراهيم يعتقدون ذلك، بل كانوا مشركين باللّه يعبدون الكواكب، ويدعونها، ويبنون لها الهياكل، ويعبدون فيها أصنامهم، وهو دين الكلدانيين والكشدانيين والصابئين المشركين، لا الصابئين الحنفاء، وهم الذين صنف صاحب [السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم] كتابه على دينهم. /وهذا دين كان كثير من أهل الأرض عليه بالشام والجزيرة والعراق وغير ذلك، وكانوا قبل ظهور دين المسيح ـ عليه السلام ـ وكان جامع دمشق وجامع حران وغيرهما موضع بعض هياكلهم؛ هذا هيكل المشتري، وهذا هيكل الزهرة. وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي، وبدمشق محاريب قديمة إلى الشمال. والفلاسفة اليونانيون كانوا من جنس هؤلاء المشركين يعبدون الكواكب والأصنام، ويصنعون السحر، وكذلك أهل مصر وغيرهم. وجمهور المشركين كانوا مقرين برب العالمين، والمنكر له قليل، مثل فرعون ونحوه. وقوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع، ولهذا قال لهم إبراهيم الخليل: ولما فسر هؤلاء [الأفول] بالحركة، وفتحوا باب تحريف الكلم عن مواضعه، دخلت الملاحدة من هذا الباب، ففسر ابن سينا وأمثاله من الملاحدة الأفول بالإمكان الذي ادعوه حيث قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية وهي مع ذلك ممكنة، وكذلك ما فيها من الكواكب والنيرين. قالوا: فقول إبراهيم: وجاء بعدهم من جنس من زاد في التحريف فقال: المراد بـ [الكواكب والشمس والقمر] هوالنفس والعقل الفعال والعقل الأول. وقد ذكر ذلك أبوحامد الغزالي في بعض كتبه، وحكاه عن غيره في بعضها، وقال هؤلاء: الكواكب والشمس والقمر لا يخفي على عاقل أنها ليست رب العالمين، بخلاف النفس والعقل. ودلالة لفظ الكواكب والشمس والقمر على هذه المعاني لو كانت موجودة/من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية، كما يتأولون العلميات مع العمليات، ويقولون: الصلوات الخمس معرفة أسرارنا، وصيام رمضان كتمان أسرارنا، والحج هو الزيارة لشيوخنا المقدسين. وفتح لهم هذا الباب [الجهمية] و [الرافضة] حيث صار بعضهم يقول: الإمام المبين: علي بن أبي طالب، والشجرة الملعونة في القرآن:بنو أمية، والبقرة المأمور بذبحها: عائشة، واللؤلؤ والمرجان:الحسن والحسين. وقد شاركهم في نحو هذه التحريفات طائفة من الصوفية وبعض المفسرين، كالذين يقولون: لكن منها مايكون معناه صحيحًا، وإن لم يكن هو المراد باللفظ، وهو الأكثر في إشارات الصوفية. وبعض ذلك لا يجعل تفسيرًا، بل يجعل من باب الاعتبار والقياس، وهذه طريقة صحيحة علمية، كما في قوله تعالى: والمقصود أن أولئك المبتدعة من أهل الكلام، لما فتحوا باب القياس الفاسد في العقليات، والتأويل الفاسد في السمعيات،صار ذلك دهليزًا للزنادقة الملحدين إلى ما هو أعظم من ذلك من السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، وصار كل من زاد في ذلك شيئًا دعاه إلى ما هو شر منه،حتى انتهي الأمر بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها، كما قال لهم رئيسهم بالشام: قد أسقطنا عنكم العبادات، فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة. ولهذا قال من قال من السلف: البدع بريد الكفر، والمعاصي بريد النفاق. ولما اعتقد أئمة الكلام المبتدع، أن معنى كون اللّه خالقًا لكل شيء هو ما تقدم: أنه لم يزل غير فاعل لشيء، ولا متكلم بشيء، حتى أحدث العالم، لزمهم أن يقولوا: إن القرآن أو غيره من كلام اللّه مخلوق منفصل بائن عنه. فإنه لو كان له كلام قديم، أو كلام غير مخلوق، لزم قدم العالم على الأصل الذي أصلوه؛ لأن الكلام قد عرف العقلاء أنه إنما يكون بقدرة المتكلم ومشيئته. وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا قدرة ولا مشيئة، فهذا لم يكن يتصوره / أحد من العقلاء، ولا نعرف أن أحدًا قاله، بل ولا يخطر ببال جماهير الناس،حتى أحدث القول به ابن كلاب. وإنما ألجأه إلى هذا:أن أولئك المتكلمين لما أظهروا موجب أصلهم، وهو القول بأن القرآن مخلوق، أظهروا ذلك في أوائل المائة الثانية، فلما سمع ذلك علماء الأمة أنكروا ذلك، ثم صار كلما ظهر قولهم أنكره العلماء ـ وكلام السلف والأئمة في إنكار ذلك مشهور متواتر ـ إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز، وأدخلوه في ذلك، وألقوا إليه الحجج التي لهم. وقالوا: إما أن يكون العالم مخلوقًا أو قديمًا. وهذا الثاني كفر ظاهر، معلوم فساده بالعقل والشرع. وإذا كان العالم مخلوقًا محدثًا بعد أن لم يكن، لم يبق قديم إلا اللّه وحده، فلو كان العالم قديمًا، لزم أن يكون مع اللّه قديم آخر. وكذلك الكلام إن كان قائمًا بذاته، لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب،وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم. وإن كان منفصلا ً عنه لزم وجود المخلوق في الأزل، وهذا قول بقدم العالم. فلما امتحن الناس بذلك، واشتهرت هذه المحنة، وثبت اللّه من ثبته من أئمة السنة، وكان الإمام ـ الذي ثبته اللّه وجعله إمامًا للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به، فمن وافقه كان سنيًا، وإلا كان بدعيًا ـ هو الإمام أحمد بن حنبل، فثبت على أن القرآن كلام اللّه غير مخلوق. /وكان المأمون، لما صار إلى الثغر بطرسوس، كتب بالمحنة كتابًا إلى نائبه بالعراق إسحاق بن إبراهيم، فدعا العلماء والفقهاء والقضاة، فامتنعوا عن الإجابة والموافقة، فأعاد عليه الجواب، فكتب كتابًا ثانيًا يقول فيه عن القاضيين ـ بشر بن الوليد، وعبد الرحمن بن إسحاق ـ إن لم يجيبا فاضرب أعناقهما، ويقول عن الباقين: إن لم يجيبوا فقيدهم فأرسلهم إلى. فأجاب القاضيان، وذكرا لأصحابهما أنهما مكرهان، وأجاب أكثر الناس قبل أن يقيدهم لما رأوا الوعيد، ولم يجب ستة أنفس فقيدهم. فلما قيدوا أجاب الباقون إلا اثنين ـ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح النيسابوري [هو أبو الحسن محمد بن نوح بن عبد الله الجُنْد يسابوري، نزيل بغداد، وثقه غير واحد، وحدّث بدمشق ومصر وبغداد، ومات سنة 231هـ]. فأرسلوهما مقيدين إليه، فمات محمد بن نوح في الطريق، ومات المأمون قبل أن يصل أحمد إليه، وتولى أخوه أبو إسحاق، وتولى القضاء أحمد بن أبي دؤاد، وأقام أحمد ابن حنبل في الحبس من سنة ثماني عشرة إلى سنة عشرين. ثم إنهم طلبوه وناظروه أيامًا متعددة، فدفع حججهم وبين فسادها، وأنهم لم يأتوا على ما يقولونه بحجة لا من كتاب ولا من سنة ولا من أثر، وأنه ليس لهم أن يبتدعوا قولًا، ويلزموا الناس بموافقتهم عليه، ويعاقبوا من خالفهم. وإنما يلزم الناس ما ألزمهم اللّه ورسوله، ويعاقب من عصى اللّه ورسوله، فإن الإيجاب والتحريم، والثواب والعقاب، والتكفير والتفسيق هو إلى اللّه ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه اللّه ورسوله، وتحريم / ما حرمه اللّه ورسوله، وتصديق ما أخبر اللّه به ورسوله. وجرت في ذلك أمور يطول شرحها. ولما اشتهر هذا وتبين للناس باطن أمرهم، وأنهم معطلة للصفات يقولون: إن اللّه لا يرى، ولا له علم، ولا قدرة، وأنه ليس فوق العرش رب، ولا على السموات إله، وإن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، إلى غير ذلك من أقوال الجهمية النفاة ـ كثر رد الطوائف عليهم بالقرآن والحديث والآثار تارة، وبالكلام الحق تارة، وبالباطل تارة. وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبد اللّه بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين. ومن قال: إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين ـ كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك ـ فهذا كذب عليه. وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم؛ فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى. وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد في الرد على الجهمية، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن،ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه.ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهوخير وأقرب إلى السنة منهم. /وكان أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال، سلك طريقة أبي محمد بن كلاب، فصار طائفة ينتسبون إلى السنة والحديث من السالمية وغيرهم كأبي علي الأهوازي، يذكرون في مثالب أبي الحسن أشياء هي من افتراء المعتزلة وغيرهم عليه؛ لأن الأشعري بين من تناقض أقوال المعتزلة وفسادها مالم يبينه غيره، حتى جعلهم في قمع السمسمة. وابن كلاب لما رد على الجهمية، لم يهتد لفساد أصل الكلام المحدث الذي ابتدعوه في دين الإسلام، بل وافقهم عليه. وهؤلاء الذين يذمون ابن كلاب والأشعري بالباطل هم من أهل الحديث. والسالمية من الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم كثير منهم موافق لابن كلاب والأشعرى على هذا، موافق للجهمية على أصل قولهم الذي ابتدعوه. وهم إذا تكلموا في [مسألة القرآن] وأنه غير مخلوق، أخذوا كلام ابن كلاب والأشعري فناظروا به المعتزلة والجهمية، وأخذوا كلام الجهمية والمعتزلة فناظروا به هؤلاء، وركبوا قولًا محدثا من قول هؤلاء وهؤلاء لم يذهب إليه أحد من السلف، ووافقوا ابن كلاب والأشعري وغيرهما على قولهم:إن القرآن قديم، واحتجوا بما ذكره هؤلاء على فساد قول المعتزلة والجهمية وغيرهم، وهم مع هؤلاء. وجمهور المسلمين يقولون: إن القرآن العربي كلام اللّه، وقد تكلم اللّه به بحرف وصوت، فقالوا: إن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، أو الحروف/ بلا أصوات، وأن [الباء والسين والميم] مع تعاقبها في ذاتها فهي أزلية الأعيان لم تزل ولا تزال؛ كما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرآن في موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على أصل مقالات الطوائف، وابن كلاب أحدث ما أحدثه لما اضطره إلى ذلك من دخول أصل كلام الجهمية في قلبه، وقد بين فساد قولهم بنفي علو اللّه ونفي صفاته. وصنف كتبًا كثيرة في أصل التوحيد والصفات، وبين أدلة كثيرة عقلية على فساد قول الجهمية، وبين فيها أن علو اللّه على خلقه، ومباينته لهم، من المعلوم بالفطرة والأدلة العقلية القياسية، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وكذلك ذكرها الحارث المحاسبي في كتاب [فهم القرآن] وغيره. بين فيه من علو اللّه واستوائه على عرشه ما بين به فساد قول النفاة، وفرح الكثير من النظار الذين فهموا أصل قول المتكلمين، وعلموا ثبوت الصفات للّه، وأنكروا القول بأن كلامه مخلوق، فرحوا بهذه الطريقة التي سلكها ابن كلاب، كأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والثقفي؛ ومن تبعهم، كأبي عبد اللّه بن مجاهد، وأصحابه، والقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبى بكر بن فُوَرك، وغير هؤلاء. وصار هؤلاء يردون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب والقلانسي /والأشعري وغيرهم من مثبتة الصفات، فيبينون فساد قولهم: بأن القرآن مخلوق وغير ذلك، وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة والجهمية ما فيه ظهور شعار السنة، وهو القول بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، وأن اللّه يُرى في الآخرة، وإثبات الصفات والقدر، وغير ذلك من أصول السنة. لكن الأصل العقلي الذي بنى عليه ابن كلاب قوله في كلام اللّه وصفاته، هو أصل الجهمية والمعتزلة بعينه، وصاروا إذا تكلموا في خلق اللّه السموات والأرض وغير ذلك من المخلوقات، إنما يتكلمون بالأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم؛ فيقولون قول أهل الملة، كما نقله أولئك، ويقررونه بحجة أولئك. وكانت محنة الإمام أحمد سنة عشرين ومائتين، وفيها شرعت القرامطة الباطنية يظهرون قولهم، فإن كتب الفلاسفة قد عُرِّبَتْ وعرف الناس أقوالهم. فلما رأت الفلاسفة أن القول المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، هو هذا القول الذي يقوله المتكلمون الجهمية ومن اتبعهم، ورأوا أن هذا القول الذي يقولونه فاسد من جهة العقل. طمعوا في تغيير الملة. فمنهم من أظهر إنكار الصانع، وأظهر الكفر الصريح، وقاتلوا المسلمين، وأخذوا الحجر الأسود، كما فعلته قرامطة البحرين. وكان قبلهم قد فعل بَابَكْ الخُرَّمِي مع المسلمين ما هو مشهور. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره من كشف أسرار / الباطنية، وهتك أستارهم، فإنه كان منهم من النفاة الباطنية الخرمية، وصاروا يحتجون في كلامهم وكتبهم بحجج قد ذكرها أرسطو وأتباعه من الفلاسفة، وهو أن الحركة يمتنع أن يكون لها ابتداء، ويمتنع أن يكون للزمان ابتداء، ويمتنع أن يصير الفاعل فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلا، فصار هؤلاء الفلاسفة وهؤلاء المتكلمون كلاهما يستدل على قوله بالحركة. فأرسطو وأتباعه يقولون: إن الحركة يمتنع أن يحدث نوعها بعد أن لم يكن، ويمتنع أن يصير الفاعل فاعلًا بعد أن لم يكن؛ ولأنه من المعلوم بصريح المعقول أن الذات إذا كانت لا تفعل شيئًا ثم فعلت بعد أن لم تفعل، فلا بد من حدوث حادث من الحوادث، وإلا فإذا قدرت على حالها وكانت لا تفعل، فهي الآن لا تفعل، فإذا كانت الآن تفعل، لزم دوام فعلها. ويقولون: [قبل وبعد] مستلزم للزمان، فمن قال بحدوث الزمان لزمه القول بقدمه من حيث هو قائل بحدوثه. ويقولون: الزمان مقدار الحركة فيلزم من قدمه قدمها، ويلزم من قدم الحركة قدم المتحرك ـ وهو الجسم ـ فيلزم ثبوت جسم قديم، ثم يجعلون ذلك الجسم القديم هو الفلك، ولكن ليس لهم على هذا حجة، كما قد بسط في موضع آخر. وصار المتكلمون من الجهمية والمعتزلة والكُلابية والكُرَّامية يردون عليهم، ويدعون أن القادر المختار يرجح أحد المقدورين المتماثلين على الآخر المماثل له بلا سبب أصلًا، وعلى هذا الأصل بنوا كون اللّه خالقًا للمخلوقات. /ثم نفاة الصفات يقولون: رجح بمجرد القدرة، وكذلك أصل القدرية، والمعتزلة جمعت بين الأمرين. وأما المثبتة كالكُلابية والكُرَّامية فيدعون أنه رجح بمشيئة قديمة أزلية. وكلا القولين مما ينكره جمهور العقلاء. ولهذا صار كثير من المصنفين في هذا الباب، كالرازي، ومن قبله من أئمة الكلام والفلسفة ـ كالشهرستاني ومن قبله من طوائف الكلام والفلسفة ـ لا يوجد عندهم إلا العلة الفلسفية، أو القادرية المعتزلية أو الإرادية الكلابية، وكل من الثلاثة منكر في العقل والشرع؛ ولهذا كانت بحوث الرازي في مسألة القادر المختار في غاية الضعف من جهة المسلمين، وهي على قول الدهرية أظهر دلالة. واحتج أهل الكلام المبتدع بأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، ويقولون: لو وجدت حوادث لا أول لها، لكنا إذا قدرنا ما وجد قبل الطوفان وما وجد قبل الهجرة، وقابلنا بينهما، فإما أن يتساويا ـ وهو ممتنع ـ لأنه يكون الزائد مثل الناقص، وإما أن يتفاضلا، فيكون فيما لا يتناهي تفاضلًا وهو ممتنع، ويذكرون حججًا أخرى قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع. وقد تكلم الناس في هذه [الحجة] ونحوها، وبينوا فسادها؛ بأن التفاضل إنما يقع من الطرف المتناهي لا من الطرف الذي لا يتناهي، وبأن هذا / منقوض بالحوادث المستقبلة، فإن كون الحادث ماضيًا أو مستقبلًا أمر إضافي؛ ولهذا منع أئمة هذا القول ـ كجهم والعلاف ـ وجود حوادث لا تتناهي في المستقبل، وقال جهم: بفناء الجنة والنار، وقال العلاف: بفناء الحركات، وهذا كله مبسوط في موضع آخر. وصار طائفة أخرى، قد عرفت كلام هؤلاء وكلام هؤلاء ـ كالرازي والآمدي وغيرهما ـ يصنفون الكتب الكلامية، فينصرون فيها ماذكره المتكلمون المبتدعون عن أهل الملة من [حدوث العالم] بطريقة المتكلمين المبتدعة هذه، وهو امتناع حوادث لا أول لها، ثم يصنفون الكتب الفلسفية كتصنيف الرازي [المباحث الشرقية] ونحوها، ويذكر فيها ما احتج به المتكلمون على امتناع حوادث لا أول لها، وإن الزمان والحركة والجسم لها بداية، ثم ينقض ذلك كله، ويجيب عنه، ويقرر حجة من قال: إن ذلك لا بداية له. وليس هذا تعمدًا منه لنصر الباطل، بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه. فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما يقدح به في كلام الفلاسفة قدح به، فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له. فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء، وكذلك يصنع بالآخرين. ومن الناس من يسىء به الظن، وهو أنه يتعمد الكلام الباطل، وليس /كذلك، بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له، وهو متناقض في عامة ما يقوله؛ يقرر هنا شيئًا ثم ينقضه في موضع آخر؛ لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المبتدع المذموم عند السلف، ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة، يشتمل على كلام باطل ـ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء ـ فيقرر كلام طائفة بما يقرر به ثم ينقضه في موضع آخر بما ينقض به. ولهذا اعترف في آخر عمره فقال: لقد تأملت الطرق الكُلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا [الغليل: شدة العطش وحرارته]، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: والآمدي تغلب عليه الحيرة والوقف في عامة الأصول الكبار، حتى إنه أورد على نفسه سؤالًا في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جوابًا، وبنى إثبات الصانع على ذلك، فلا يقرر في كتبه لا إثبات الصانع ولاحدوث العالم، ولا وحدانية اللّه، ولا النبوات، ولا شيئًا من الأصول التي يحتاح إلى معرفتها. والرازي ـ وإن كان يقرر بعض ذلك ـ فالغالب على ما يقرره أنه ينقضه في موضع آخر، لكن هو أحرص على تقرير الأصول التي يحتاج إلى معرفتها من / الآمدي. ولو جمع ما تبرهن في العقل الصريح من كلام هؤلاء وهؤلاء لوجد جميعه موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجد صريح المعقول مطابقًا لصحيح المنقول. لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول، وحصل اضطراب في المعقول به، فحصل نقص في معرفة السمع والعقل، وإن كان هذا النقص هو منتهي قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته، فالعجز يكون عذرًا للإنسان في أن اللّه لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام. هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى اللّه ما استطاع، إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به.
|