الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقد نقل القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال: المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه: ما احتاج إلى بيان . وكذلك قال الإمام أحمد في رواية والشافعي قال: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل من التأويل وجوهًا. وكذلك قال الإمام أحمد. وكذلك قال ابن الأنباري: المحكم: ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه: الذي تعتوره التأويلات، فيقال حينئذ: فجميع الأمة ـ سلفها وخلفها ـ يتكلمون في معاني القرآن التي تحتمل التأويلات . وهؤلاء الذين ينصرون أن الرسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه هم من أكثر الناس كلاما فيه. /والأئمة ـ كالشافعي وأحمد ومن قبلهم ـ كلهم يتكلمون فيما يحتمل معاني، ويرجحون بعضها على بعض بالأدلة في جميع مسائل العلم الأصولية والفروعية، لا يعرف عن عالم من علماء المسلمين أنه قال عن نص احتج به محتج في مسألة: إن هذا لا يعرف أحد معناه فلا يحتج به، ولو قال أحد ذلك لقيل له مثل ذلك، وإذا ادعى في مسائل النزاع المشهورة بين الأئمة أن نصه محكم يعلم معناه، وأن النص الآخر متشابه لا يعلم أحد معناه قوبل بمثل هذه الدعوة. وهذا بخلاف قولنا: إن من النصوص ما معناه جلى واضح ظاهر لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يقع فيه اشتباه، ومنها ما في خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم، فإن هذا تفسير صحيح. وحينئذ فالخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه، فمن قال: إنه يعرف معناه يبين حجته على ذلك. وأيضًا، فما ذكره السلف والخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه. فمن قال: إن المتشابه هو المنسوخ، فمعنى المنسوخ معروف، وهذا القول مأثور عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم. وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، معلوم قطعا باتفاق المسلمين أن الراسخين يعلمون معنى المنسوخ، وأنه منسوخ، فكان هذا النقل عنهم يناقض ذلك النقل، ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقا، وإلا تعارض النقلان/ عنهم. والمنقول عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه . والقول الثاني: مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال: المحكم: ما علم العلماء تأويله، والمتشابه: ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة، ومعلوم أن وقت قيام الساعة مما اتفق المسلمون على أنه لا يعلمه إلا الله. فإذا أريد بلفظ التأويل هذا كان المراد به لا يعلم وقت تأويله إلا الله، وهذا حق، ولا يدل ذلك على أنه لا يعرف معنى الخطاب بذلك، وكذلك إن أريد بالتأويل حقائق ما يوجد، وقيل: لا يعلم كيفية ذلك إلا الله، فهذا قد قدمناه، وذكر أنه على قول هؤلاء من وقف عند قوله: ومن قال ذلك من المتأخرين، فإنه متناقض، يقول ذلك، ويقول ما يناقضه، وهذا القول يناقض الإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة، ويوجب القدح في الرسالة، ولا ريب أن الذي قالوه لم يتدبروا لوازمه وحقيقته، بل أطلقوه وكان أكبر قصدهم دفع تأويلات أهل البدع للمتشابه، وهذا الذي قصدوه حق، وكل مسلم يوافقهم عليه؛ لكن لا ندفع باطلًا بباطل آخر، ولا نرد بدعة ببدعة، ولا يرد تفسير/ أهل الباطل للقرآن بأن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا لا يعرفون تفسير ما تشابه من القرآن، ففي هذا من الطعن في الرسول وسلف الأمة ما قد يكون أعظم من خطأ طائفة في تفسير بعض الآيات، والعاقل لا يبنى قصرا ويهدم مصرًا . والقول الثالث: أن المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور. يروى هذا عن ابن عباس. وعلى هذا القول فالحروف المقطعة ليست كلاما تاما من الجمل الإسمية والفعلية، وإنما هي أسماء موقوفة؛ ولهذا لم تعرب، فإن الإعراب إنما يكون بعد العقد والتركيب، وإنما نطق بها موقوفة، كما يقال: أ ب ت ث؛ ولهذا تكتب بصورة الحرف، لا بصورة الاسم الذي ينطق به، فإنها في النطق أسماء؛ ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاى من زيد، قالوا: زا، قال: نطقتم بالاسم، وإنما النطق بالحرف زه، فهي في اللفظ أسماء، وفي الخط حروف مقطعة، {الم}[البقرة: 1] لا تكتب ألف لام ميم، كما يكتب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، أما أنى لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) . والحرف في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتناول الذي يسميه النحاة اسمًا وفعلًا وحرفًا؛ ولهذا قال سيبوبه في تقسيم الكلام: / اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، فإنه لما كان معروفًا من اللغة أن الاسم حرف. والفعل حرف خص هذا القسم الثالث الذي يطلق النحاة عليه الحرف أنه جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، وهذه حروف المعاني التي يتألف منها الكلام . وأما حروف الهجاء، فتلك إنما تكتب على صورة الحرف المجرد، وينطق بها غير معربة، ولا يقال فيها: معرب ولا مبنى؛ لأن ذلك إنما يقال في المؤلف، فإذا كان على هذا القول كا ما سوى هذه محكم حصل المقصود، فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يقال: هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس فإن كان معناها معروفا فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفًا ـ وهي المتشابه ـ، كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب . وأيضًا، فإن الله ـ تعالى ـ قال: وسبب نزول هذه الآية الصحيح، يدل على أن غيرها ـ أيضًا ـ متشابه، ولكن هذا القول يوافق ما نقل عن اليهود من طلب علم المدد من حروف الهجاء. / والرابع: أن المتشابه ما اشتبهت معانيه. قال مجاهد: وهذا يوافق قول أكثر العلماء، وكلهم يتكلم في تفسير هذا المتشابه، ويبين معناه . والخامس: أن المتشابه ما تكررت ألفاظه، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: المحكم: ما ذكر اللّه ـ تعالى ـ في كتابه من قصص الأنبياء ففصله وبينه، والمتشابه: هو ما اختلفت ألفاظه في قصصهم عند التكرير كما قال في موضع من قصة نوح: {احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40]. وقال في موضع آخر: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون: 27]، وقال: في عصا موسى: والسادس: أنه ما احتاج إلى بيان كما نقل عن أحمد. والسابع: أنه ما احتمل وجوها، كما نقل عن الشافعى، وأحمد. وقد روي عن أبى الدرداء ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال: إنك لا تفقه كل / الفقه حتى ترى القرآن وجوها. وقد صنف الناس كتب الوجوه والنظائر، فالنظائر: اللفظ الذي اتفق معناه في الموضعين وأكثر. والوجوه: الذي اختلف معناه، كما يقال: الأسماء المتواطئة والمشتركة، وإن كان بينهما فرق، ولبسطه موضع آخر . وقد قيل: هي نظائر في اللفظ ومعانيها مختلفة، فتكون كالمشتركة، وليس كذلك، بل الصواب أن المراد بالوجوه والنظائر هو الأول، وقد تكلم المسلمون سلفهم وخلفهم في معاني الوجوه، وفيما يحتاج إلى بيان وما يحتمل وجوهًا، فعلم يقينًا أن المسلمين متفقون على أن جميع القرآن مما يمكن العلماء معرفة معانيه وعلم أن من قال: إن من القرآن ما لا يفهم أحد معناه، ولا يعرف معناه إلا اللّه، فإنه مخالف لإجماع الأمة مع مخالفته للكتاب والسنة . والثامن: أن المتشابه هو القصص والأمثال وهذا ـ أيضًا ـ يعرف معناه. والتاسع: أنه ما يؤمن به ولا يعمل به، وهذ ـ أيضًا ـ مما يعرف معناه. والعاشر: قول بعض المتأخرين: إن المتشابه آيات الصفات، وأحاديث الصفات، وهذا ـ أيضًا ـ مما يعلم معناه، فإن أكثر آيات الصفات اتفق / المسلمون على أنه يعرف معناها. والبعض الذي تنازع الناس في معناه إنما ذم السلف منه تأويلات الجهمية، ونفوا علم الناس بكيفيته، كقول مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال سائر أئمة السنة. وحينئذ ففرق بين المعنى المعلوم، وبين الكيف المجهول، فإن سُمى الكيف تأويلا ساغ أن يقال: هذا التأويل لا يعلمه إلا اللّه، كما قدمناه أولا . وأما إذا جعل معرفة المعنى وتفسيره تأويلًا كما يجعل معرفة سائر آيات القرآن تأويلا، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل والصحابة والتابعين ما كانوا يعرفون معنى قوله: فمن قال عن جبريل ومحمد ـ صلوات اللّه وسلامه عليهما ـ وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين والجماعة: إنهم كانوا لا يعرفون شيئًا من معاني هذه الآيات، بل اتسأثر اللّه بعلم معناها، كما استأثر بعلم وقت الساعة، وإنما كانوا يقرؤون ألفاظًا لا يفهمون لها معنى، كما يقرأ الإنسان كلامًا لا يفهم منه شيئًا، فقد كذب على القوم، والنقول المتواترة عنهم تدل على نقيض هذا، وأنهم كانوا يفهمون هذا يفهمون غيره من القرآن، وإن كان كنه الرب ـ عز وجل ـ لا يحيط به العباد، ولا يحصون ثناءً عليه، فذاك لا يمنع أن يعلموا من أسمائه وصفاته ما علمهم ـ سبحانه وتعالى ـ كما أنهم إذا علموا أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، لم يعرفوا كيفية علمه وقدرته، وإذا عرفوا أنه أنه حق موجود لم يلزم أن يعرفوا كيفية ذاته . / وهذا مما يستدل به على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإن الناس متفقون على أنهم يعرفون تأويل المحكم، ومعلوم أنهم لا يعرفون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه في الآيات المحكمات، فدل ذلك على أن عدم العلم بالكيفية لا ينفي العلم بالتأويل الذي هو تفسير الكلام وبيان معناه، بل يعلمون تأويل المحكم المتشابه، ولا يعرفون كيفية الرب لا في هذا، ولا في هذا. فإن قيل: هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير، وبين التأويل الذي في كتاب الله ـ تعالى ـ قيل: لا يقدح في ذلك، فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصور ذلك في القلب غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج المرادة بذلك الكلام، فإن الشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، فالكلام لفظ له معنى في القلب، ويكتب ذلك اللفظ بالخط، فإذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب، وعبر عنه باللسان، فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج، وليس كل من عرف الأول، عرف عين الثاني . مثال ذلك: أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وخبره ونعته، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث، فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك/الكلام، وكذلك الإنسان قد يعرف الحج والمشاعر كالبيت والمسجد ومنى وعرفة ومزدلفة ويفهم معنى ذلك، ولا يعرف أعيان الأمكنة حتى يشاهدها، فيعرف أن الكعبة المشاهدة المذكورة في قوله: وكذلك الرؤيا قد يراها الرجل، ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره، مثل أن يقول: هذا يدل على أنه كان كذا، ويكون كذا وكذا، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه؛ ولهذا قال يوسف الصديق: وأيضًا، فإن اللّّه قد ذم في كتابه من يسمع القـرآن ولا يفقه معناه، وذم من لم يتدبره ومدح من يسمعه ويفقهه، فقال تعالى: والأمثال: هي المتشابه عند كثير من السلف، وهي إلى المتشابه أقرب من غيرها لما بين الممثِل والممثَّل به من التشابه، وعقل معناها هو معرفة تأويلها الذي يعرفه الراسخون في العلم دون غيرهم، ويشبه هذا قوله تعالى: وقال تعالى: فإذا كـان كثير من القرآن أو أكثره مما لا يفهم أحـد معناه، لم يكن المتدبر المعقول إلا بعضه، وهذا خلاف ما دل عليه القـرآن، لا سيما عامة ما كان المشركـون ينكـرونه كالآيات الخبرية، والإخبار عن اليوم الآخر أو الجنة والنار، وعن نفي الشركاء والأولاد عن اللّه، ونسميته بالرحمن، فكان عامة إنكارهم لما يخبرهم به من صفات اللّّه نفيا وإثباتا، وما يخبرهم به عن اليوم الآخر. وقد ذم اللّه من لا يعقل ذلك ولا يفهمه ولا يتدبره. فعلم أن اللّه يأمر بعقل ذلك وتدبره، وقد قال تعالى: وقد استدل بعضهم بأن اللّّه لم ينف عن غيره علم شيء إلا / كان منفردًا به، كقوله: فيقال: ليس الأمر كذلك، بل هذا بحسب العلم المنفي، فإن كان مما استأثر اللّه به قيل فيه ذلك، وإن كان مما علمه بعض عباده ذكر ذلك، كقوله: وقد قال تعالى: ومن أعظم الاختلاف الاختلاف في المسائل العلمية الخبرية المتعلقة بالإيمان بالله واليوم الآخر، فلابد أن يكون الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه من ذلك، ويمتنع أن يكون حاكما إن لم يكن معرفة معناه ممكنًا، وقد نصب الله عليه دليلًا، وإلا فالحاكم الذي يبين ما في نفسه لا يحكم بشيء، وكذلك إذا قيل: هو الحاكم بالكتاب، فإن حكمه فصل يفصل به بين الحق والباطل، وهذا إنما يكون بالبيان، وقد قال تعالى في القرآن: وأيضًا، فإن اللّه قال: وهذه الأصناف الثلاثة تستوعب أهل الضلال والبدع، فإن أهل البدع الذين ذمهم اللّّه ورسوله نوعان: أحدهما: عالم بالحق يتعمد خلافه. والثاني: جاهل متبع لغيره. فالأولون: يبتدعون ما يخالف كتاب اللّه، ويقولون: هو من عند اللّّه، إما أحاديث مفتريات، وإما تفسير وتأويل للنصوص باطل، ويعضدون ذلك بما يدعونه من الرأي والعقل، وقصدهم بذلك الرياسة والمأكل، فهؤلاء يكتبون الكتاب بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلًا: / وأما النوع الثاني: الجهال، فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون. فعن ابن عباس وقتادة في قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}، أي: غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم، ولا يدرون ما فيه، وقوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ}، أي: تلاوة فهم لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم، قاله الكسائى والزجاج. وكذلك قال ابن السائب: لا يحسنون قراءة الكتاب، ولا كتابته إلا أماني، إلا ما يحدثهم به علماؤهم. وقال أبو روق وأبو عبيدة: أي تلاوة وقراءة عن ظهر القلب، ولا يقرؤونها في الكتب، ففي هذا القول جعل الأماني التي هي التلاوة تلاوة الأميين أنفسهم، وفي ذلك جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم، وكلا القولين حق والآية تعمهما، فإنه سبحانه وتعالى قال: / تمنى كتاب اللّه أول ليلة ** وآخرها لا قى حمام المقادر والأميون نسبة إلى الأمة قال بعضهم: إلى الأمة وما عليه العامة، فمعنى الأمى: العامى الذي لا تمييز له، وقال الزجاج: هو على خلق الأمة التي لم تتعلم فهو على جبلته، وقال غيره: هو نسبة إلى الأمة، لأن الكتابة كانت في الرجال دون النساء؛ ولأنه على ما ولدته أمه. والصواب: أنه نسبة إلى الأمة، كما يقال: عامى نسبة إلى العامة التي لم تتميز عن العامة بما تمتاز به الخاصة، وكذلك هذا لم يتميز عن الأمة بما يمتاز به الخاصة من الكتابة والقراءة، ويقال: الأمى لمن لا يقرأ ولا يكتب كتابًا، ثم يقال لمن ليس لهم كتاب منزل من اللّّه يقرؤونه وإن كان قد يكتب ويقرأ ما لم ينزل، وبهذا المعنى كان العرب كلهم أميين، فإنه لم يكن عندهم كتاب منزل من اللّه، قال اللّه تعالى: وقوله: وقد يقال: إن قوله: وأيضًا، فإن الله ذكر هذا في سياق الذم لهم، وليس في كون الرجل لا يخط ذم إذا قام بالواجب، وإنما الذم على كونه لا يعقل/ الكتاب الذي أنزل إليه، سواء كتبه وقرأه أولم يكتبه، ولم يقرأه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا أوان يرفع العلم). فقال له زياد بن لبيد: كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنَّه ولنقرِئنَّه نساءنا؟ فقال له: (إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغنى عنهم؟) وهو حديث معروف، رواه الترمذي وغيره؛ ولأنه قال تعالى قبل هذا: وإذا كان اللّه قد ذم هؤلاء الذين لا يعرفون الكتاب إلا تلاوة دون فهم معانيه، كما ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون دل على أن كلا النوعين مذموم: الجاهل الذي لا/يفهم معاني النصوص، والكاذب الذي يحرف الكلم عن مواضعه. وهذا حال أهل البدع، فإنهم أحد رجلين: إما رجل يحرف الكلم عن مواضعه، ويتكلم برأيه، ويؤوله بما يضيفه إلى اللّه فهؤلاء يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون: هو من عند اللّه، ويجعلون تلك المقالات التي ابتدعوها هي مقالة الحق، وهي التي جاء بها الرسول، والتي كان عليها السلف، ونحو ذلك، ثم يحرفون النصوص التي تعارضها، فهؤلاء إذا تعمدوا ذلك، وعلموا أن الذي يفعلونه مخالف للرسول فهم من جنس هؤلاء اليهود وهذا يوجد في كثير من الملاحدة ويوجد في بعض الأشياء في غيرهم. وأما الذين قصدهم اتباع الرسول باطنًا وظاهرا، وغلطوا فيما كتبوه، وتأولوه، فهؤلاء ليسوا من جنسهم، لكن قد وقع بسبب غلطهم ما هو من جنس ذلك الباطل، كما قيل: إذا زل العالم زل بزلته عالم. وهذا حال المتأولين من هذه الأمة. وإما رجل مقلد أمى لا يعرف من الكتاب إلا ما يسمعه منهم، أو ما يتلوه هو، ولا يعرف إلا أماني وقد ذمه اللّّه على ذلك، فعلم أن اللّه ذم الذين لا يعرفون معاني القرآن ولا يتدبرونه ولا يعقلونه، كما صرح القرآن بذمهم في غير موضع، فيمتنع مع هذا أن يقال: إن أكثر القرآن أو كثيرًا منه لا يعلمه أحد من الخلق إلا أماني، لاجبريل ولا محمد ولا الصحابة ولا أحد من / المسلمين، فإن هذا تشبيه لهم بهؤلاء فيما ذمهم اللّه به. فإن قيل: أفلا يجب على كل مسلم معرفة معنى كل آية؟ قيل: نعم، لكن معرفة معاني الجميع فرض على الكفاية، وعلى كل مسلم معرفة ما لا بد منه، وهؤلاء ذمهم اللّه؛ لأنهم لا يعلمون معاني الكتاب إلا تلاوة، وليس عندهم إلا الظن، وهذا يشبه قوله: فإن قيل: فقد قال بعض المفسرين{إِلاَّ أَمَانِيَّ}: إلا ما يقولونه بأفواههم كذبًا وباطلًا، وروى هذا عن بعض السلف واختاره الفراء . وقال: الأماني: الأكاذيب المفتعلة، قال بعض العرب لابن دأب ـ وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم تمنيته، أي: افتعلته؟ فأراد بالأماني الأشياء التي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثم أضافوها إلى اللّه من تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: الأماني: يتمنون على اللّه الباطل والكذب، كقولهم: قيل: كلا القولين ضعيف، والصواب الأول؛ لأنه سبحانه قال: / وأيضًا، فهذه الأماني الباطلة التي تمنوها بقلوبهم وقالوها بألسنتهم. /كقوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] قد اشتركوا فيها كلهم فلا يخص بالذم الأميون منهم، وليس لكونهم أميين مدخل في الذم بهذه، ولا لنفي العلم بالكتاب مدخل في الذم بهذه، بل الذم بهذه مما يعلم أنها باطل أعظم من ذم من لا يعلم أنها باطل؛ ولهذا لما ذم الله بها عمم ولم يخص، فقال تعالى: وأيضًا، فإنه قال: وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذْو القذَّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر/ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذن أمتى مآخذ الأمم قبلها شبرًا بشبر وذراعا بذراع) قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: (ومن الناس إلا أولئك). فهـذا دليل على أن مـا ذم الله بـه أهـل الكـتاب في هذه الآيـة يكون في هذه الأمة من يشبههم فيه، وهذا حق قد شوهد، قال تعالى: فقد تبين أن الواجب: طلب علم ما أنزل اللّه على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك كما كان على ذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم، فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم، فقد بينه اللّه ورسوله بيانًا شافيا فكيف بأصول التوحيد والإيمان؟ ! ثم إذا عرف ما بينه الرسول نظر في أقوال/ الناس، وما أرادوه بها، فعرضت على الكتاب والسنة. والعقل الصريح دائما موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالفه قط، فإن الميزان مع الكتاب، واللّه أنزل الكتاب بالحق والميزان، لكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به، فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه، لا بما يعلمون بعقولهم بطلانه، فالرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ تخبر بمحارات العقول لا تخبر بمحالات العقول، فهذا سبيل الهدى والسنة والعلم، وأما سبيل الضلال والبدعة والجهل فعكس ذلك أن يبتدع بدعة برأي رجال وتأويلاتهم، ثم يجعل ما جاء به الرسول تبعًا لها، ويحرف ألفاظه، ويتأول على وفق ما أصلوه. وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول، ولا يتلقون الهدى منه، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم تأولوه، كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه أو فوضوه، كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وهؤلاء قد لا يعرفون ما جاء به الرسول، إما عجزًا وإما تفريطا، فإنه يحتاج إلى مقدمتين: أن الرسول قال كذا، وأنه أراد به كذا. أما الأولى: فعامتهم لا يرتابون في أنه جاء بالقرآن وإن كان من غلاة أهل البدع من يرتاب في بعضه، لكن الأحاديث عامة أهل البدع جهال بها، وهم يظنون أن هذه رواها آحاد يجوزون عليهم الكذب والخطأ، ولا يعرفون من كثرة /طرقها وصفات رجالها، والأسباب الموجبة للتصديق بها ما يعلمه أهل العلم بالحديث فإن هؤلاء يقطعون قطعًا يقينًا بعامة المتون الصحيحة التي في الصحيحين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع . وأما المقدمة المقدمة الثانية، فإنهم قد لا يعرفون معاني القرآن والحديث. ومنهم من يقول: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم، وقد بسطنا الكلام على فساد ذلك في غير هذا الموضع . وكثير منهم إنما ينظر من تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقوه على المذهب فيتأول تأويلاتهم، فالنصوص التي توافقهم يحتجون بها، والتي تخالفهم يتأولونها، وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلًا، وهذا في البدع الكبار مثل الرافضة والجهمية، فإن الذي وضع الرفض كان زنديقًا ابتدأ تعمد الكذب الصريح الذي يعلم أنه كذب، كالذين ذكرهم اللّه من اليهود الذين يفترون على اللّه الكذب وهم يعلمون، ثم جاء من بعدهم من ظن صدق ما افتراه أولئك، وهم في شك منه، كما قال تعالى: وكذلك الجهمية ليس معهم على نفي الصفات وعلو الله على العرش ونحو ذلك نص أصلًا، لا آية ولا حديث، ولا أثر عن الصحابة، / بل الذي ابتدأ ذلك لم يكن قصده اتباع الأنبياء، بل وضع ذلك كما وضعت عبادة الأوثان، وغير ذلك من أديان الكفار، مع علمهم بأن ذلك مخالف للرسل، كما ذكر عن مبدلة اليهود، ثم فشا ذلك فيمن لم يعرفوا أصل ذلك. وهذا بخلاف بدعة الخوارج، فإن أصلها ما فهموه من القرآن فغلطوا في فهمه، ومقصودهم اتباع القرآن باطنًا وظاهرًا، ليسوا زنادقة . وكذلك القدرية أصل مقصودهم تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد الذي جاءت به الرسل، ويتبعون من القرآن ما دل على ذلك، فعمرو بن عبيد وأمثاله لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم كالذي ابتدع الرفض. وكذلك الإرجاء إنما أحدثه قوم قصدهم جعل أهل القبلة كلهم مؤمنين ليسوا كفارًا، قابلوا الخوارج والمعتزلة فصاروا في طرف آخر. وكـذلك التشيع المتوسـط ـ الذي مضمونـه تفضيل علىّ وتقـديمـه على غـيره، ونحـو ذلك ـ لم يكـن هـذا مـن إحداث الزنـادقــة، بخـلاف دعـوى النـص فيـه والعصمة، فإن الذي ابتدع ذلك كان منـافقا زنـديقـا؛ / ولهذا قـال عبـد اللّّه بن المبارك ويـوسف بن أسباط وغيرهما: أصول البدع أربعة: الشيعة، والخوارج، والقـدرية، والمرجئـة. قالوا: والجهميـة ليسـوا مـن الثنتين وسبعين فرقة. وكذلك ذكر أبو عبد الله ابن حامد عن أصحاب أحمد في ذلك قولين، هذا أحدهما، وهذا أرادوا به التجهم المحض الذي كان عليه جهم نفسه ومتبعوه عليه، وهو نفي الأسماء مع نفي الصفات، بحيث لا يسمي الله بشيء من أسمائه الحسني، ولا يسميه شيئًا ولا موجودًا ولا غير ذلك، وإنما نقل عنه أنه كان يسميه قادرًا ـ لأن جميع الأسماء يسمي بها الخلق، فزعم أنه يلزم منها التشبيه، بخلاف القادر ـ فإنه كان رأس الجبرية، وعنده ليس للعبد قدرة ولا فعل، ولا يسمى غير الله قادرًا؛ فلهذا نقل عنه أنه سمي الله قادرًا. وشر منه نفاة الأسماء والصفات، وهم الملاحدة من الفلاسفة والقرامطة؛ ولهذا كان هؤلاء عند الأئمة قاطبة ملاحدة منافقين، بل فيهم من الكفر الباطن ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى، وهؤلاء لا ريب أنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة، وإذا أظهروا الإسلام فغايتهم أن يكونوا منافقين، كالمنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولئك كانوا أقرب إلى الإسلام من هؤلاء، فإنهم كانوا يلتزمون بشرائع الإسلام الظاهرة، وهؤلاء قد/ يقولون برفعها، فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة، لكن قد يقال: إن أولئك كانوا قد قامت عليهم الحجة بالرسالة أكثر من هؤلاء. وأما من يقول ببعض التجهم ـ كالمعتزلة ونحوهم الذين يتدينون بدين الإسلام باطنًا وظاهرًا ـ فهؤلاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب. وكذلك من هو خير منهم كالكُلاَّبِية والكَرَّامِيَّة. وكذلك الشيعة المفضلين لعلي، ومن كان منهم يقول بالنص والعصمة مع اعتقاده نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، وظنه أن ما هو عليه هو دين الإسلام، فهؤلاء أهل ضلال وجهل ليسوا خارجين عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا. وعامة هؤلاء ممن يتبع ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما أن من المنافقين والكفار من يفعل ذلك؛ ولهذا قال طائفة من المفسرين ـ كالربيع بن أنس: هم النصارى، كنصاري نجران. وقالت طائفة ـ كالكلبي: هم اليهود. وقالت طائفة ـ كابن جريج: هم المنافقـون. وقـالت طائفة ـ كالحسن: هم الخوارج. وقالت طائفة ـ كقتادة: هم الخوارج والشيعة. وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية:
|