الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
ومعنى المرض الوافد: هو ما يعمّ خلقًا كثيرًا في بلدٍ واحد وزمانٍ واحد ومنه نوع يقال له: الموتان وهو الذي يكثر معه الموت وحدوث الأمراض الوافدة تكون عن أسباب كثيرة يجتمع في أجناس أربعة وهي تغير كيفية الهواء وتغير كيفية الماء وتغير كيفية الأغذية وتغير كيفية الأحداث النفسانية. فالهواء تغير كيفيته على ضربين: أحدهما تغيره الذي جرت به العادة وهذا لا يحث مرضًا وافدًا وليس تغيرًا ممرضًا. والثاني: التغير الخارج عن مجرى العادة وهذا هو الذي يحدث المرض الوافد. وكذلك الحال في الأجناس الباقية وخروج تغير الهواء عن عادته يكون: إما بأن يسخن أكثر أو يبرد أو يرطب أو يجفف أو يخالطه حال عفنة والحالة العفنة إما أن تكون قريبة أو بعيدة. فإن أبقراط وجالينوس يقولان: إنه ليس يمنع مانع من أن يحدث ببلد اليونانيين مرض وافد عن عفونة اجتمعت في بلاد الحبشة وتراقت إلى وقد يتغير أيضًا مزاج الهواء عن العادة بأن يصل وفد كثير قد أنهك أبدانهم طول السفر وساءت أخلاطهم فيخالط الهواء منها شيء كثير ويقع الأعداء في الناس ويظهر المرض الوافد. والماء ضًا قد يحدث المرض الوافد إما بأن يفرط مقداره في الزيادة أو النقصان أو يخالطه حال عفنة ويضطرّ الناس إلى شربه ويعفن به أيضًا الهواء المحيط بأبدانهم وهذه الحال تخالطه إما قريبًا أو بعيدًا بمنزلة ما يمرّ في جريانه بموضع خرب قد اجتمع فيه من جيف الموتى شيء كثير أو بمياه تقاطع عفنة فيحذرها معه ويخالط جسمه والأغذية تحدث المرض الوافد. إما إذا لحقها اليرقان وارتفعت أسعارها واضطرّ الناس إلى أكلها وإما إذا كثر الناس منها في وقت واحد كالذي يكون في الأعياد فيكثر فيهم التخم ويمرضون مرضًا متشابهًا. وإما من قبيل فساد مرعى الحيوان الذي يؤكل أو فساد الماء الذي يشرب والأحداث النفسانية تحدث المرض الوافد متى حدث في الناس خوف عام من بعض الملوك فيطول سفرهم وتفكرهم في الخلاص منه وفي وقوع البلاء فيسوء هضمهم وتتغير حرارتهم الغريزية. وربما اضطروا إلى حركة عنيفة في هذه الحال أو يتوقعوا قحط بعض السنين فيكثرون الحركة والاجتهاد في ادّخار الأشياء ويشتد غمهم بما سيحدث. فجميع هذه الأشياء تحدث في أبدان الناس المرض الوافد متى كان المتعرض لها خلق كثير في بلد واحد ووقت واحد. وظاهر أنه إذا كثر في وقتِ واحدٍ المرضى بمدينة واحدة ارتفع من أبدانهم بخار كثير فيتغير مزاج الهواء فإذا صادف بدنًا مستعدًّا أمرضه وإن كان صاحبه لم يتعرض لما يتعرض إليه الناس. فالأمراض الوافدة بمصر تحدث إما عن فساد لم تجر بع العادة يعرض للهواء سواء كان مادة فساده من أرض مصر أو من البلاد التي تجاوزتها كالسودان والحجاز والشام وبرقة أو يعرض للنيل بأن تفرط زيادته فتكثر زيادة الرطوبة والعفن أو تقل زيادته جدًا فيجف الهواء عن مقدار العادة ويضطر الناس إلى شرب مياه رديئة أو يخالطه عفونة تحدث عن جرب يكون بأرض مصر أو ببلاد السودان أو غيرها يموت فيها خلق كثير ويرتفع بخار جيفهم في الهواء فيعفنه ويتصل عفنه إليهم أو يسيل الماء ويحمل معه العفن أو يغلو السعر أو يلحق الغلات آفة أو يدخل على الكبش ونحوها مضرة أو يلحق الناس خوف عام أو قنوط. وكل واحد من هذه الأسباب يحدث في أرض مصر مرضًا وافدًا يكون قوته بمقدار قوة السبب المحدث له وإن كان أكثر من سبب واحد كان ذلك المرض أشد وأقوى وأسرع في القتل. قال: فمزاج أرض مصر حار رطب بالرطوبة الفضلية وما قرب من الجنوب بأرض مصر كان أسخن وأقل عفنًا في ماء النيل مما كان منها في الشمال ولا سيما من كان في شمال الفسطاط. مثل أهل البشمور فإن طباعهم أغلظ والبله عليهم أغلب وذلك أنهم يستعملون أغذية غليظة وأما الإسكندرية وتنيس وأمثال هذه فقربها من البحر وسكون الحرارة والبرد عنهم وظهور الصبا فيهم مما يصلح أمرهم ويرق طباعهم ويرفع هممهم ولا يعرض لهم ما يعرض لأهل البشمور من غلظ الطبع والجمادية وإحاطة البحر بمدينة تنيس توجب غلبة الرطوبة عليها ما يسر أخلاق أهلها قال: إنه لما كانت أرض مصر وجميع ما فيها سخيفة الأجسام سريعًا إليها التغير والعفن وجب على الطبيب أن يختار من الأغذية والأدوية وما كان قريب العهد حديثًا لأن قوته بعد باقية عليه لم تتغير كل التغير وأن يجعل علاجه ملائمًا لما عليه الأبدان بأرض مصر ويجتهد أن يجعل ذلك إلى الجهة المضادة أميل قليلًا ويتجنب الأدوية القوية الإسهال وكل ما له قوة مفرطة وإن نكاية هذه الأبدان سريعة. سيما وأن أبدان المصريين سريعة الوقوع في النكايات ويختار ما يكون من الأدوية المسهلة وغيرها ألين قوة حتى لا يكون على طبيعة المصريين منها كلفة ولا يلحق أبدانهم مضرة ولا يقدم على الأدوية الموجودة في كتب أطباء اليونانيين والفرس. فإن أكثرها عملت لأبدان قوية البنية عظيمة الأخلاط وهذه الأشياء قلما توجد بمصر. فلذلك يجب على الطبيب أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى ويختار ألينها وينقص عن مقدار شربها ويبدل كثيرًا منها بما يقوم مقامه ويكون ألين منه فيتخذ السكنجبين السكري في مقام العسلي والجلاب بدلًا من ماء العسل. واعلم أن هواء مصر يعمل في المعجونات وسائر الأدوية ضعفًا في قوتها فأعمار الأدوية المفردة والمركبة المعجون منها وغير المعجون بمصر أقصر من أعمارها في غير مصر. فيحتاج الطبيب بمصر إلى تقدير ذلك وتمييزه حتى لا يشتبه عليه شيء مما يحتاج إِليه. وإذا لم يكتف في تنقية البدن بالدواء المسهل دفعة واحدة فلا بأس بإعادته بعد أيام فإن ذلك أحمد من إيراد الدواء الشديد القوّة في دفعة واحدة. قال: ولكون أرض مصر تولد في الأجسام سخافة وسرعة قبول للمرض وجب أن تكون الأبدان على الهيئة الفاضلة بأرض مصر قليلة جدًا. فأما الأبدان الباقية فكثيرة وأن تكون الصحة التامة عندهم على الأمر الأكثر في القريبة من الهيئة الفاضلة والطريق الأولى التي تدبر بها الأبدان في الهيئة الفاضلة يحتاج فيها بأرض مصر إلى أن يدبر الهواء والغذاء والماء وسائر الأشياء تدبيرًا يصير به في غاية الاعتدال. ولأن الهضم كثيرًا ما يسوء بأرض مصر. وكذلك الروح الحيواني فيجب صرف العناية إلى مراعاة أمر القلب والدماغ والكبد والمعدة والعروق وسائر الأعضاء الباطنة في تجويد الهضم وإصلاح أمر الروح الحيواني وتنظيف الأوساخ الأححة. وقال في شرح كتاب الأربع لبطليموس: وأما سائر أجزاء الربع الذي يميل إلى وسط جميع الأرض المسكونة أعني بلاد برقة وسواحل البحر من مريوط إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما وأسفل الأرض بمصر ونواحي مدينة منف ومدينة الفسطاط وما يلي شرقي النيل من صعيد مصر والفيوم إلى أعلى الصعيد مما في غرب النيل وأرض الواحات وأرض النوبة والبجة والأرض التي على البحر في شرقي بلاد النوبة والحبشة. فإن هذه البلاد موضوعة في الزاوية التي تؤثر في جميع الربع الموضوع فيما بين الدبور والجنوب. وهي من جملة النصف الغربي من الربع المعمور والكواكب الخمسة المتحيرة تشترك في تدبيرها. فصار أهلها محبين للَّه ويعظمون الجنّ ويحبون النوح ويدفنون موتاهم في الأرض ويخفونهم ويستعملون سننًا مختلفة وعادات وآراء شتى لميلهم إلى الأسرار التي تدعو كل طائفة منهم إلى أمر من الأمور الخفية فيعتقده ويوافقه جماعة ومن أجل هذه الأسرار كان المستخرج للعلوم الدقيقة كالهندسة والنجوم وغيرها في الزمان الأول أهل مصر ومنهم تفرقت في العالم وإذا ساسهم غيرهم كانوا أذلاّء. والغالب عليهم الجبن والاستحذاء في الكلام وإذا ساسوا غيرهم كانت أنفسهم طيبة وهممهم كثيرة ورجالهم يتخذون نساء كثيرة وكذلك نساؤهم يتخذن عدة رجال. وهم منهمكون في الجماع ورجالهم كثيرو النسل ونساؤهم سريعات الحمل وكثير من ذكرانهم تكون أنفسهم ضعيفة مؤنثة. وقال أبو الصلت: وأما سكان أرض مصر فأخلاط من الناس مختلفوا الأصناف والأجناس من قبط وروم وعرب وأكراد وديلم وحبشان وغير ذلك من الأصناف إلا أن جمهورهم قبط قالوا: والسبب في اختلاطهم تداول المالكين لها والمتغلبين عليها من العمالقة واليونانيين والروم وغيرهم. فلهذا اختلطت أنسابهم واقتصروا من التعريف بأنفسهم على الإشارة إلى مواضعهم والانتماء إلى مساقطهم فيها. وحكى أنهم كانوا في الزمن السالف عُباد أصنام ومدبري هياكل إلى أن ظهر دين النصرانية وغلب على أرض مصر. فتنصروا وبقوا على ذلك إلى أن فتحها المسلمون فأسلم بعضهم وبقي بعضهم على دين النصرانية. وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات والانهماك في اللذات والاشتغال بالترهات والتصديق بالمحالات وضعف المرائر والعزمات ولهم خبرة بالكيد والمكر وفيهم بالفطرة قوّة عليه وتلطف فيه وهداية إليه لما في أخلاقهم من الملق والبشاشة التي أربوا فيها على من تقدّم وتأخر. وخصوا بالإفراط فيها دون جميع الأمم. حتى صار أمرهم في ذلك مشهورًا والمثل بهم مضروبًا وفي خبثهم ومكرهم يقول أبو نواس: محضتكم يا أهل مصر نصيحتي ألا فخذوا من ناصح بنصيب رماكم أمير المؤمنين بحيةٍ أكول لحيات البلاد شروب قال مؤلفه رحمه اللّه تعالى: وقد مرّ لي قديمًا أن منطقة الجوزاء تسامت رؤوس أهل مصر. فلذلك يتحدّثون بالأشياء قبل كونها ويخبرون بما يكون وينذرون بالأمور المستقبلة. ولهم في هذا الباب أخبار مشهورة. قال ابن الطوير: وقد ذكر استيلاء الفرنج على مدينة صور فعاد الحفظ والحراسة على مدينة عسقلان فما زالت محمية بالأبدال المجرّدة إليها من العساكر والأساطيل. والدولة تضعف أوّلًا فأوّلًا باختلاف الآراء فثقلت على الأجناد وكبر أمرها عندهم واشتغلوا عنها فضايقها الفرنج حتى أخذوها في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ولقد سمعت رجلًا قبل ذلك بسنين يحدّث بهذه الأمور ويقول في سنة ثمان تؤخذ عسقلان بالأمان. ومن هذا الباب واقعة الكنائس التي للنصارى وذلك أنه لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة والناس في صلاة الجمعة كأنما نودي في إقليم مصر كله من قوص إلى الإسكندرية بهدم الكنائس. فهدم في تلك الساعة بهذه المسافة الكبيرة عدد كثير من الكنائس كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر كنائس النصارى. ومن هذا الباب واقعة ألدمر وذلك: أنه خرج الأمير ألدمر أمير جندار يريد الحج من القاهرة في سنة ثلاثين وسبعمائة وكانت فتنة بمكة قتل فيها ألدمر يوم الجمعة رابع عشر في الحجة فأشيع في هذا اليوم بعينه في القاهرة ومصر وقلعة الجبل بأنّ وقعة كانت بمكة قتل فيها ألدمر فطار هذا الخبر في ريف مصر واشتهر فلم يكترث الملك الناصر محمد بن قلاوون بهذا الخبر. فلما قدم المبشرون على العادة أخبروا بالواقعة. وقتل الأمير سيف الدين ألدمر في ذلك اليوم الذي كانت الإشاعة فيه بالقاهرة. قال جامع السيرة الناصرية: كنت مع الأمير علم الدين الخازن في الغربية وقد خرج إليها كاشفًا فلما صليت أنا وهو صلاة الجمعة وعدنا إلى البيت قدم بعض غلمانه من القاهرة فأخبرنا أنه أشيع بأن فتنة كانت بمكة قتل فيها جماعة من الأجناد وقتل فيها الأمير ألدمر أمير جندار. فقال له الأمير علم الدين: هل حضر أحد من الحجاز بهذا الخبر. قال: لا فقال: ويحك الناس ما تحضر من منى بمكة إلا ثالث يوم بعد عيد النحر فكيف سمعتم هذا الخبر الذي لا يسمعه عاقل. فقال: قد استفيض ذلك وكان الأمر كما أشيع. ووقع لي في شهر رمضان من شهور سنة إحدى وتسعين وسبعمائة أني مررت في الشارع بين القصرين بالقاهرة بعد العتمة فإذا العامّة تتحدّث بأن الملك الظاهر برقوق خرج من سجنه بالكرك واجتمع عليه الناس فضبطت ذلك فكان اليوم الذي خرج فيه من السجن وفي هذا الباب من هذا كثير.
|