الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة النمل: آية 23]: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}.المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في {تَمْلِكُهُمْ} راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها: كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين. وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكى القصاص من يقف على قوله: {وَلَها عَرْشٌ} ثم يبتدئ {عَظِيمٌ وَجَدْتُها} يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فرّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب اللّه. فإن قلت: كيف قال: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مع قول سليمان {وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} كأنه سوّى بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من اللّه، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما أوتى من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل اللّه عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب..[سورة النمل الآيات: 24- 26]: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}.فإن قلت: من أين للهدهد التهدى إلى معرفة اللّه، ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه اللّه ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان، خصوصا في زمن نبىّ سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. من قرأ بالتشديد أراد: فصدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف، فهو ألا يسجدوا. ألا للتنبيه، ويا حرف النداء، ومناداه محذوف، كما حذفه من قال:وفي حرف عبد اللّه وهي قراءة الأعمش: {هلا} و{هلا} بقلب الهمزتين هاء. وعن عبد اللّه: {هلا تسجدون} بمعنى ألا تسجدون على الخطاب. وفي قراءة أبىّ: {ألا تسجدون للّه الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون} وسمى المخبوء بالمصدر: وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وعلا من غيوبه. وقرئ: الخب، على تخفيف الهمزة بالحذف. والخبا، على تخفيفها بالقلب، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار. ووجهها: أن تخرّج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، رأيت الخبا، ومررت بالخبى. ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، لا على لغة من يقول: الكمأة والحمأة، لأنها ضعيفة مسترذلة. وقرئ: يخفون ويعلنون، بالياء والتاء. وقيل: من أحطت إلى العظيم: هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة. وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذى الفراسة النظار بنور اللّه مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد: ما عمل عبد عملا إلا ألقى اللّه عليه رداء عمله. فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟.قلت: هي واجبة فيهما جميعا، لأنّ مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما اللّه على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة ص: فهي عند أبى حنيفة سجدة تلاوة. وعند الشافعي: سجدة شكر. وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} ثم ابتدأ {أَلَّا يَسْجُدُوا} وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدّد لم يقف إلا على الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. فإن قلت: كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش اللّه في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لأنّ وصف عرشها بالعظم: تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك.ووصف عرش اللّه بالعظم: تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض. وقرئ: {العظيم} بالرفع. اهـ. .قال ابن جزي: {آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ}.عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض، وإن كان الموصوف واحدًا.{هُدًى وبشرى} في موضع نصب على المصدر، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء مضمر.{وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة، فتكون بقية صلة الذين، أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها، ورجح الزمخشري هذا.{يَعْمَهُونَ} يتحيرون {سواء العذاب} يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر، ويحتمل أن يريد عذاب الآخرة، والأول أرجح لأنه ذكر الآية بعد ذلك {لَتُلَقَّى القرآن} أي تعطاه.{آنَسْتُ} ذكر في [طه: 11] وكذلك قبس: [طه: 12]، والشهاب: النجم شبَّه القبس به، وقرىء بإضافة شهاب إلى قبس وبالتنوين على البدل أو الصفة، فإن قيل: كيف قال هنا: {سَآتِيكُمْ} وفي الموضع الآخر: {لعلي آتِيكُمْ} [طه: 10، القصص: 29]؛ والفرق بين الترجي والتسويق أن التسويق متيقن الوقوع بخلاف الترجي؟ فالجواب أنه قد يقول الراجي: سيكون كذا؛ إذا قوي رجاؤه {تَصْطَلُونَ} معناه: تستدفئون بالنار من البرد، ووزنه تفعلون، وهو مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} {أَن} مفسرة، و{بُورِكَ} من البركة، {مَن فِي النار} يعني من في مكان النار {وَمَنْ حَوْلَهَا} من حول مكانها: يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام، قال الزمخشري: والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض، وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام {وَسُبْحَانَ الله} يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى عليه السلام، أو يكون مستأنفًا وعلى كلا الوجهين قصد به تنزيه الله مما عسى أن يخطر ببال السامع من معنى النداء، أو في قوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} لأن المعنى نودي أن بورك من في النار، إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه.{وَأَلْقِ عَصَاكَ} هذه الجملة معطوفة على قوله: {بُورِكَ مَن فِي النار}، لأن المعنى يؤدي إلى أن: {بُورِكَ مَن فِي النار}، وأن {وَأَلْقِ عَصَاكَ} وكلاهما تفسير للنداء {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} الجان: الحية، وقيل: الحية الصغيرة، وعلى هذا يشكل قوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} [الأعراف: 107، الشعراء: 32]، والجواب أنها ثعبان في جِرْمها، جانٌ في سرعة حركتها {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع أو لم يلتفت {إِلاَّ مَن ظَلَمَ} استثناء منقطع تقديره: لكن من ظلم من سائر الناس، لا من المرسلين، وقيل: إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم، وهذا بعيد؛ لأن الصحيح عصمتهم من الذنوب، وأيضًا فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم {بَدَّلَ حُسْنًا} أي عمل صالحًا {فِي جَيْبِكَ} ذكر في [طه: 22] {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} متصل بقوله: ألق وأدخل، تقديره: نسير لك في جملة تسع آيات، وقد ذكرت الآيات التسع في [الإسراء: 101] {إلى فِرْعَوْنَ} متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره: اذهب بالآيات التسع إلى فرعون {مُبْصِرَةً} أي ظاهرة واضحة الدلالة، وأسند الإبصار لها مجازًا، وهو في الحقيقة لمتأملها {واستيقنتهآ} يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد، ولذلك قال فيه: {ظُلْمًا}. والواو فيه واو الحال، وأضمرت بعدها قد عَلَوْا يعني تكبروا.{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أي ورث عنه النبوة والعلم والملك {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} عموم معناه الخصوص، والمراد بهذا اللفظ التكثير: كقولك: فلان يقصده كل أحد، وقوله: علمنا وأوتينا؛ يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه خاصة على وجه التعظيم، لأنه كان ملكًا {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ} اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافًا شديدًا، تركنا ذكره لعدم صحته {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يكفُّون ويردّ أوَّلهم. إلى آخرهم، ولابد لكل ملك أو حاكم في وَزَعَةٍ يدفعون الناس.{حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل} ظاهر هذا أن سليمان وجنوده كانوا مشاة بالأرض، أو ركبانًا حتى خافت منهم النمل، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح، وأحست النملة بنزولهم في وادي النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ} النمل: حيوان بل حشرة فطن قويّ الحس يدخر قوته، ويقسم الحبة بقسمين لئلا تنبت، ويقسم حبة الكسبرة على أربع قطع لأنها تنبت إذا قمست قسمين، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول، ورُوي أن سليمان سمع كلامها، وكان بينه وبينها ثلاثة أميال، وهذا لا يسمعه البشر إلى من خصة الله بذلك {ادخلوا} خاطبتهم مخطابة العقلاء، لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} يحتمل أن يكون جوابًا للأمر، أو نهيًا بدلًا من الأمر لتقارب المعنى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الضمير لسليمان وجنوده، والمعنى اعتذار عنهم لو حطموا النمل أي لو شعروا بهم لم يحطموهم {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} تبسم لأحد أمرين: أحدهما سروره بما أعطاه الله؛ والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإن قولها هم لا يشعرون: وصف لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان.{وَتَفَقَّدَ الطير} اختلف الناس في معنى تفقده للطير، فقيل: ذلك لعنايته بأمور ملكه، وقيل: لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} أم منقطعة، فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، {فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر، ثم علم بأنه غائب فأخبر بذلك.{فَمَكَثَ} أي أقام ويجوز فتح الكاف وضمها، وبالفتح قرأ عاصم والباقون بالضم، والفعل يحتمل أن يكون مسندًا إلى سليمان عليه السلام أو إلى الهدهد، وهو أظهر {غَيْرَ بَعِيدٍ} يعني زمان قريب {أَحَطتُ} أي أحطت علمًا بما لم تعلمه {مِن سَبَإٍ} يعني قبيلة من العرب، وجدّهم الذي يعرفون به: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومن صرفه أراد الحيّ أو الأب، ومن لم يصرفه سبأ أراد القبيلة أو البلدة، وقرىء بالتسكين لتوالي الحركات، وعلى القراءة بالتنوين يكون في قوله: {من سبإ بنبإ} ضرب من أدوات البيان، وهو التجنيس.{وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} المرأة بلقيس بنت شراحيل: كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، والضمير في تملكهم يعود على سبأ، وهم قومها {مِن كُلِّ شَيْءٍ} عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجه الملك {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} يعني سرير ملكها، ووقف بعضهم على عرش، ثم ابتدأ {عَظِيمٌ} {وَجَدتُّهَا} على تقدير عظيم أن {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله}، وهذا خطأ، وإنما حمله عليه الفرار من وصف عرشها بالعظمة.{أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} من كلام الهدهد أو من كلام الله، وقرأ الجمهور ألاَّ بالتشديد، وأن في موضع نصب على البدن من أعمالهم، أو في موضع خفض على البدل من السبيل، أو يكون التقدير: لا يهتدون لأن يسجدوا بحذف اللام، وزيادة لا، وقرأ الكسائي: ألا يا اسجدوا بالتخفيف على أن تكون لا حرف تنبيه وأن تكون الياء حرف نداء فيوقف عليها بالألف على تقدير يا قوم ثم يبتدىء اسجدوا {يُخْرِجُ الخبء} في اللغة: الخفي، وقيل: معناه هنا: الغيب، وقيل: يخرج النبات من الأرض، واللفظ يعم كل خفيّ، وبه فسره ابن عباس. اهـ.
|