الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)} فيه ثماني عشرة مسألة:الأولى: قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطير} ذكر شيئًا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدّم.والتفقد تطلّب ما غاب عنك من شيء.والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها.وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها.واختلف الناس في معنى تفقده للطير؛ فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتَّهمُّم بكل جزء منها؛ وهذا ظاهر الآية.وقالت فرقة: بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير؛ ليتبيّن من أين دخلت الشمس.وقال عبد الله ابن سَلاَم: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض؛ لأنه كان نزل في مفازة عُدِم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجنّ تخرجه في ساعة يسيرة؛ تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة؛ قاله ابن عباس فيما روى عن ابن سَلاَم.قال أبو مِجْلَز قال ابن عباس لعبد الله بن سَلاَم: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل قال: أتسألني وأنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم ثلاث مرات.قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه أو قال مسافته وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده.وقال في كتاب النقاش: كان الهدهد مهندسًا.وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له: قف يا وقّاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخّ حين يقع فيه؟ا فقال له ابن عباس: إذا جاء القدر عَمِي البصر.وقال مجاهد: قيل لابن عباس كيف تفقّد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلًا ولم يدر ما بُعْد الماء، وكان الهدهد مهتديًا إليه، فأراد أن يسأله.قال مجاهد: فقلت كيف يهتدي والصبيّ يضع له الحِبَالة فيصيده؟ا فقال: إذا جاء القدر عَمِيَ البصر.قال ابن العربي: ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن.قلت: هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدّم.وأنشدوا:قال الكلبي: لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد.والله أعلم.الثانية: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته؛ والمحافظة عليهم.فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام المُلْك.ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته؛ قال: لو أن سخلة على شاطىء الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر.فما ظنك بوالٍ تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان.وفي الصحيح عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بَسْرَغٍ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام.الحديث؛ قال علماؤنا: كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط.وكان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، فقد دلّ القرآن والسنة وَبيَّنا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال.ورحم الله ابن المبارك حيث يقول: الثالثة: قوله تعالى: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} أي ما للهدهد لا أراه؛ فهو من القلب الذي لا يعرف معناه.وهو كقولك: ما لي أراك كئيبًا.أي مالك.والهدهد طير معروف وهدهدته صوته.قال ابن عطية: إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز.والاستفهام الذي في قوله: {مَالِيَ} ناب مناب الألف التي تحتاجها أم.وقيل: إنما قال: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ}؛ لأنّه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصّر في حق الشكر، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه؛ فقال: {مَالِيَ}.قال ابن العربي: وهذا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم، تفقدوا أعمالَهم؛ هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصّر في الفرائضا.وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب: {مَالِيَ} بفتح الياء وكذلك في يس {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} [ياس: 22].وأسكنها حمزة ويعقوب.وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو بفتح التي في يس وإسكان هذه.قال أبو عمرو: لأن هذه التي في النمل استفهام، والأخرى انتفاء.واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان {فَقَالَ مَالِي}.وقال أبو جعفر النحاس: زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرّقوا بين ما كان مبتدأ، وبين ما كان معطوفًا على ما قبله، وهذا ليس بشيء؛ وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكِنها، فقرؤوا باللغتين؛ واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة؛ لأنها اسم وهي على حرف واحد، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم.{أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} بمعنى بل.الرابعة: قوله تعالى: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} دليل على أن الحدّ على قدر الذنب لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة.روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه.قال ابن جريج: ريشه أجمع.وقال يزيد بن رومان: جناحاه.فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظًا على العاصين، وعقابًا على إخلاله بنَوْبته ورتبته؛ وكأن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع.والله أعلم.وفي نوادر الأصول قال: حدّثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي، قال: حدّثنا عون بن عمارة، عن الحسين الجَعْفيّ، عن الزبير بن الخِرِّيت، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارًا بوالديه.وسيأتي.وقيل: تعذيبه أن يجعل مع أضداده.وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد.وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه.وقيل: إيداعه القفص.وقيل: بأن يجعله للشمس بعد نتفه.وقيل: بتبعيده عن خدمتي، والملوك يؤدّبون بالهجران الجسدَ بتفريق إلفه.وهو مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي أو الخفيفة.قال أبو حاتم: ولو قرئت {لأَعَذِّبَنْهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنْهُ} جاز.{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجة بينة.وليست اللام في {لَيَأْتِيَنِّي} لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد؛ ولكن لما جاء في أثر قوله: {لأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه.وقرأ ابن كثير وحده {لَيَأْتيَنَّنِي} بنونين.الخامسة: قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد.والجمهور من القراء على ضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها.ومعناه في القراءتين أقام.قال سيبويه: مَكَث يمكُث مُكُوثًا كما قالوا قعد يقعد قعودًا.قال: ومَكُث مثل ظَرُف.قال غيره: والفتح أحسن لقوله تعالى: {مَّاكِثِينَ} [الكهف: 3] إذ هو من مكث؛ يقال: مَكَث يمَكُث فهو ماكثٌ؛ ومَكُث يمكُث مثل عَظُم يعظُم فهو مكِيثٌ؛ مثل عظيم.ومَكُث يمكُث فهو ماكثٌ؛ مثل حَمُض يَحمُض فهو حامض.والضمير في {مَكَثَ} يحتمل أن يكون لسليمان؛ والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل.ويحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر.فجاء {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وهي:السادسة: أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا ردّ على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب.وحكى الفراء {أَحَطُّ} يدغم التاء في الطاء.وحكى {أَحَتُّ} بقلب الطاء تاء وتدغم.السابعة: قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح.
|