الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقول كعب بن زهير: و من في قوله: {مِنَ الرحمن} فيها للعلماء وجهان معروفان: أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير: أن من هي التي بمعنى بدل. وعليه فقوله: {مِنَ الرحمن} أي بدل الرحمن، يعني غيره. وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز: أي لم تذق بدل البقول الفستق. وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] أي بدلها ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر. يعني أخذوا في الزكاة المخاض بدل الفصيل. والوجه الثاني أن المعنى {مَن يَكْلَؤُكُم} قال أبو حيان في البحر: هو استفهام تقريع وتوبيخ. وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير. فوجه كونه إنكاريًا أن المعنى: لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله البتَّة إلاَّ الله تعالى. أي فكيف تعبدون غيره. ووجه كونه تقريريًّا أنهم إذا قيل لهم: من يكلؤكم؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله. لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب، ولا يدعون معه غيره، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة الإسراء وغيرها. فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم باللَّيل والنهار إلى ما لا ينفع ولا يضر. وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد يمنع أحدًا من عذاب الله، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده جاء مبينًا في مواضع أخر. كقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] على أظهر التفسيرات، وقوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] الآية، وقوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]، وقوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا} [المائدة: 17]، وقوله تعالى: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] إلى غير ذلك من الآيات.{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}.قوله في هذه الآية الكريمة {أَمْ} هي المنقطعة، وهي بمعنى بل والهمزة، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار، والمعنى: ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعزّ حتى لا ينالهم عذابنا. ثم بين أن آلهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها، فكيف تنفع غيرها بقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ}. وقوله: {مِّن دُونِنَا} فيه وجهان: أحدهما أنه متعلق. {آلِهَةٌ} أي ألهم آلهة {مِّن دُونِنَا} أي سوانا {تَمْنَعُهُمْ} مما نريد أن نفعله بهم من العذاب! كلا! ليس الأمر كذلك. الوجه الثاني أنه متعلق. {تَمْنَعُهُمْ} لقول العرب: منعت دونه، أي كففت أذاه. والأظهر عند الأول. ونحوه كثير في القرآن كقوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ} [الأنبياء: 29] الآية وقوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان: 3] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها فكيف تنفع غيرها جاء مبينًا في غير هذا الموضع؟ كقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَواء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 191- 195]، وقوله تعالى: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 197- 198]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: 13- 14] الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة} [الأحقاف: 5] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع البتة.وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي يجارون: أي ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا. لأن الله يجير ولا يجاز عليه كما صرح بذلك في سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] في قوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88]. والعرب تقول: أنا جار لك وصاحب من فلان. أي مجير لك منه. ومنه قول الشاعر: يعني ليجار ويُغاث منا. وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا. كقول بعضهم {يُصْحَبُونَ} يُمنعون. وقول بعضهم يُنصرون. وقول بعضهم {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل الرحمة صاحبًا لهم. والعلم عند الله تعالى.قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَاءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر}.الظاهر أن الإضراب. {بَلْ} في هذه الآية الكريمة انتقالي. والإشارة في قوله: {هؤلاء} راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن} [الأنبياء: 42] الآية، وهم كفَّار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله. والمعنى: أنه متَّع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، فحملهم ذلك على الطغيان واللجاج في الكفر.وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة، وأن ذلك يزيدهم كُفرًا وضلالًا جاء موضحًا في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]، وقوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182- 183]، وقوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ولَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوما بُورًا} [الفرقان: 18]، وقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَاءَهُمْ حتى جَاءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَا جَاءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 29- 30] والآيات بمثل ذلك كثيرة. والعمر يطلق على مدة العيش.قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها أَفَهُمُ الغالبون}.في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء: وبعضها تدل له قرينة قرآنية:قال بعض العلماء: نقصها من أطرافها: موت العلماء، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هرير. وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى.وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها.وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس والثمرات، إلى غير ذلك من الأقوال، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية: فهو أن معنى {نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها، وردها دار إسلام. والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده {أَفَهُمُ الغالبون}. والاستفهام لإنكار غلبتهم. وقيل: لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون، فقوله: {أَفَهُمُ الغالبون} دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور. ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} [الرعد: 31] على قول من قال: إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم تفتح أطراف بلادهم، أو تحل أنت يا نبي الله قريبًا من دارهم.وممن يروى عنه هذا القول: ابن عباس وأبو سعيد وعكرمة ومجاهد وغيرهم. وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة الرعد أيضًا في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41].وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الأنبياء هذه: إن أحسن ما فُسِّر به قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} [الأنبياء: 44] هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكِنا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27].قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره ابن كثير رحمه الله صواب، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه. وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله، والكفر بما جئت به {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلَكِنا قوم صالح وقوم لوط، وهم يمرون بديارهم. وكما أهلَكِنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل مُمَزَّق كل ذلك بسبب تكذيب الرسل، والكفر بما جاءوا به. وهذا هو معنى قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكِنا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} [الأحقاف: 27] كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم. وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده {أَفَهُمُ الغالبون} والمعنى: أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم، وأنتم لستم بأقوى منهم، ولا أكثر أموالًا ولا أولادًا. كما قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكِناهُمْ} [الدخان: 37] الآية. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرض فَمَا أغنى عَنْهُم مَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [غافر: 82]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ} [الروم: 9] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.وإنذار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جدًّا في القرآن. وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير رحمه الله من تفسير آية الأنبياء هذه بآية الأحقاف المذكورة كما بينا.وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: أي فائدة في قوله: {نَأْتِي الأرض}؟ قلت: فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها اهـ منه. والله جل وعلا أعلم. اهـ.
|