الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
الأولى: أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر. وقال الشيعة والخوارج: لا يجوز، وحكي نحوه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود، والتحقيق عن مالك، وجل أصحابه، القول بجواز المسح على الخف في الحضر والسفر. وقد روي عنه المنع مطلقًا، وروي عنه جوازه في السفر دون الحضر. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا أنكره إلا مالكًا في رواية أنكرها أكثر أصحابه، والروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليه جميع أصحابه، وجميع أهل السنة. وقال الباجي: رواية الإنكار في "العتبية" وظاهرها المنع، وإنما معناها أن الغسل أفضل من المسح، قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكًا على المسح في الحضر والسفر. وهذا هو الحق الذي لا شك فيه، فما قاله ابن الحاجب عن مالك من جوازه في السفر دون الحضر غير صحيح، لأن المسح على الخف متواتر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال الزرقاني في شرح "الموطأ": وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري، حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، اهـ. وقال النووي في شرح "المهذب": وقد نقل ابن المنذر في كتاب (الإجماع) إجماع العلماء على جواز المسح على الخف، ويدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في مسح النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، وأمره بذلك وترخيصه فيه، واتفاق الصحابة، فمن بعدهم عليه. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا جواز المسح على الخفين عن عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي مسعود الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنهم. قلت: ورواه خلائق من الصحابة، غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي، وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها. قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، وسلمان، وبريدة، وعمرو بن أمية، ويعلى بن مرة، وعبادة بن الصامت، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وصفوان بن عسال، وأبي هريرة، وعوف بن مالك، وابن عمر، وأبي بكرة وبلال، وخزيمة بن ثابت. قال ابن المنذر: وروينا عن الحسن البصري، قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين. قال: وروينا عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف، اهـ. وقد ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف في غزوة تبوك، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، وثبت في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخف، ولا شك أن ذلك بعد نزول آية المائدة كما تقدم، وفي سنن أبي داود أنهم لما قالوا لجرير: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة. وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا تدل على عدم نسخ المسح على الخفين، وأنه لا شك في مشروعيته، فالخلاف فيه لا وجه له ألبتة. * * * المسألة الثانية: اختلف العلماء في غسل الرجل والمسح على الخف أيهما أفضل؟ فقالت جماعة من أهل العلم: غسل الرجل أفضل من المسح على الخف، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن الرخصة في المسح، وهو قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابهم، ونقله ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابنه رضي الله عنهما، ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري. وحجة هذا القول أن غسل الرجل هو الذي واظب عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم في معظم الأوقات، ولأنه هو الأصل، ولأنه أكثر مشقة. وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن المسح أفضل، وهو أصح الروايات عن الإمام أحمد، وبه قال الشعبي، والحكم، وحماد. واستدل أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات حديث المغيرة بن شعبة: "بهذا أمرني ربي". ولفظه في سنن أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: "بل أنت نسيت. بهذا أمرني ربي عزَّ وجلَّ". واستدلوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال الآتي إن شاء الله تعالى "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفَّين" الحديث. قالوا: والأمر إذا لم يكن للوجوب، فلا أقل من أن يكون للندب، قال مقيده عفا الله عنه: وأظهر ما قيل في هذه المسألة عندي، هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله، وعزاه لشيخه تقي الدين رحمه الله، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف ضد حاله التي كان عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما، ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه. وهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة، اهـ. ويشترط في الخف: أن يكون قويًا يمكن تتابع المشي فيه في مواضع النزول، وعند الحط والترحال، وفي الحوائج التي يتردد فيها في المنزل، وفي المقيم نحو ذلك، كما جرت عادة لابسي الخفاف. * * * المسألة الثالثة: إذا كان الخف مخرقًا، ففي جواز المسح عليه خلاف بين العلماء، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه إن ظهر من تخريقه قدر ثلث القدم لم يجز المسح عليه، وإن كان أقل من ذلك جاز المسح عليه، واحتجوا بأن الشرع دل على أن الثلث آخر حد اليسير، وأول حد الكثير. وقال بعض أهل العلم: لا يجوز المسح على خف فيه خرق يبدو منه شيء من القدم، وبه قال أحمد بن حنبل، والشافعي في الجديد، ومعمر بن راشد. واحتج أهل هذا القول بأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل، والمستور حكمه المسح، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز، فكما أنه لا يجوز له أن يغسل إحدى رجليه ويمسح على الخف في الأخرى، لا يجوز له غسل بعض القدم مع مسح الخف في الباقي منها. وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الخرق الكبير يمنع المسح على الخف دون الصغير. وحددوا الخرق الكبير بمقدار ثلاثة أصابع. قيل: من أصابع الرجل الأصاغر، وقيل: من أصابع اليد. وقال بعض أهل العلم: يجوز المسح على جميع الخفاف، وإن تخرقت تخريقًا كثيرًا ما دامت يمكن تتابع المشي فيها. ونقله ابن المنذر عن سفيان الثوري، وإسحاق، ويزيد بن هارون، وأبي ثور. وروى البيهقي في السنن الكبرى عن سفيان الثوري أنه قال: امسح عليهما ما تعلقا بالقدم، وإن تخرقا، قال: وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة، اهـ. وقال البيهقي: قول معمر بن راشد في ذلك أحب إلينا، وهذا القول الذي ذكرنا عن الثوري، ومن وافقه هو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله. وقال ابن المنذر: وبقول الثوري أقول، لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولًا عامًا يدخل فيه جميع الخفاف. اهـ، نقله عنه النووي، وغيره، وهو قوي. وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه، وعلى ما ظهر من رجله. هذا حاصل كلام العلماء في هذه المسألة. وأقرب الأقوال عندي، المسح على الخف المخرق ما لم يتفاحش خرقه حتى يمنع تتابع المشي فيه لإطلاق النصوص، مع أن الغالب على خفاف المسافرين، والغزاة عدم السلامة من التخريق، والله تعالى أعلم. * * * المسألة الرابعة: اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين، فقال قوم: يجوز المسح على النعلين. وخالف في ذلك جمهور العلماء، واستدل القائلون بالمسح على النعلين بأحاديث، منها ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي قيس الأودي، هو عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة "أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح الجوربين والنعلين" قال أبو داود، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وروى هذا الحديث البيهقي. ثم قال: قال أبو محمد: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل: لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس، وهزيل، فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي، فسمعته يقول: علي بن شيبان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعف أو واه، أو كلمة نحوها، اهـ. وروى البيهقي أيضًا عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يُروى هذا إلا من حديث أبي قيس، قال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: هو منكر، وروى البيهقي أيضًا عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة، إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس. وروي أيضًا عن يحيى بن معين أنه قال في هذا الحديث: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس، ثم ذكر أيضًا ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وقال أبو داود: وروِي هذا الحديث أيضًا عن أبي موسى الأشعري، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وليس بالقوي ولا بالمتصل، وبين البيهقي، مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي، فعدم اتصاله، إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمن، قال البيهقي: والضحاك بن عبد الرحمن: لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعدم قوته، لأن في إسناده عيسى بن سنان، قال البيهقي: وعيسى بن سنان ضعيف، اهـ. وقال فيه ابن حجر في (التقريب): لين الحديث، واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين، قالوا: أخرجه أبو داود، وسكت عنه، وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن قالوا: وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح، قالوا: وأبو قيس وثقه ابن معين، وقال العجلي: ثقة ثبت، وهزيل وثّقه العجلي، وأخرج لهما معًا البخاري في صحيحه، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة، بل رويا أمرًا زائدًا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان قالوا: ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمن من أبي موسى، لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه. ولأن عبد الغني قال في (الكمال): سمع الضحاك من أبي موسى، قالوا: وعيسى بن سنان، وثقه ابن معين وضعفه غيره، وقد أخرج الترمذي في "الجنائز" حديثًا في سنده عيسى بن سنان هذا، وحسنه. ويعتضد الحديث المذكور أيضًا بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر، الثابت في الصحيح أن عبيد بن جريج. قال له: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها، قال: ما هن؟ فذكرهن، وقال فيهن: رأيتك تلبس النِّعال السِّبتية، قال: أما النعال السبتية، "فإنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعالَ التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها". قال البيهقي، بعد أن ساق هذا الحديث بسنده: ورواه البخاري في الصحيح، عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، ورواه جماعة عن سعيد المقبري، ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري، فزاد فيه: ويمسح عليها. وهو محل الشاهد قال البيهقي. وهذه الزيادة إن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما، فقد يغسلهما في النعل، ويمسح عليهما. ويعتضد الاستدلال المذكور أيضًا في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب، قال: بال علي، وهو قائم ثم توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: وبإسناده قال: حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن أبي ظبيان، قال: "بال عليَّ وهو قائم ثمَّ توضَّأَ ومسح على النَّعلين ثمَّ خرج فصلَّى الظهر". وأخرج البيهقي أيضًا نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر، ويعتضد الاستدلال المذكور بما رواه البيهقي أيضًا من طريق رواد بن الجراح، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأَ مرة مرة، ومسح على نعليه"، ثم قال: هكذا رواه رواد بن الجراح، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة. وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا، وليس بمحفوظ. ثم قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان فذكره بإسناده "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين" اهـ. قال البيهقي بعد أن ساقه: والصحيح رواية الجماعة، ورواهد عبد العزيز الدراوردي، وهشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فحكيا في الحديث "رشا على الرجل وفيها النعل"، وذلك يحتمل أن يكون غسلها في النعل، فقد رواه سليمان بن بلال، ومحمد بن عجلان، وورقاء بن عمر، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، فحكوا في الحديث غسله رجليه، والحديث حديث واحد، والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه، ويعتضد الاستدلال المذكور أيضًا بما رواه البيهقي أيضًا، أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا مسدد، وعباد بن موسى، قالا: ثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قال عباد: قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأَ ومسح على نعليه وقدميه". وقال مسدد: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء، عن أوس الثقفي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وهو منقطع" أخبرناه أبو بكر بن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا حماد بن سلمة، فذكره. وهذا الإسناد غير قوي، وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول، اهـ كلام البيهقي. ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج به، ومنها ما معناه عنده "إنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في النعلين". ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث ابن عمر، الثابت في الصحيحين، أنه قال: أما النِّعال السبتية "فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النِّعال الَّتي ليس فيها شعر، ويتوضَّأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها" اهـ. ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر "ويتوضأ" فيها أنه يغسل رجليه فيها، وقد علمت أنا قَدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان، عن المقبري، وفيها زيادة، "ويمسح عليها". وقال البيهقي ـ رحمه الله ـ في منع المسح على النعلين والجوربين: والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة، أو إجماع لا يختلف فيه، وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما، اهـ. وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن الترمذي صحح المسلم على الجوربين والنعلين، وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة، وحسنه أيضًا من حديث الضحاك عن أبي موسى، وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النِّعال السبتية. قالوا: وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب، عن الثوري في المسح على النعلين، حديث جيد قالوا: وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما. ويقول كذلك: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل"، وصححه ابن القطان. وقال ابن حزم: المنع من المسح على الجوربين خطأ، لأنه خلاف السنة الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف الآثار. هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين أن الجوربين ملصقان بالنعلين، بحيث يكون المجموع ساترًا لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه، والجوربان صفيقان فلا إشكال. وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما، ففي النفس منه شيء، لأنه حينئذ لم يغسل رجله، ولم يمسح على ساتر لها، فلم يأت بالأصل، ولا بالبدل. والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النَّار"، والله تعالى أعلم. * * * المسألة الخامسة: اختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين. فذهب الجمهور العلماء إلى توقيت المسح بيوم وليلة المقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر. وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري، ومحمد بن جرير الطبري، والحسن بن صالح بن حسين. وممن قال به من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس وحذيفة، والمغيرة، وأبو زيد الأنصاري. وروي أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن جميعهم. وممن قال به من التابعين شُرَيْح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز. وقال أبو عمر بن عبد البر: أكثر التابعين والفقهاء على ذلك. وقال أبو عيسى الترمذي: التوقيت ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم. وقال الخطابي: التوقيت قول عامة الفقهاء، قاله النووي. وحجة أهل هذا القول بتوقيت المسح الأحاديث الواردة بذلك، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم، يوم وليلة"، أخرجه مسلم، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان. ومن ذلك أيضًا حديث أبي بكرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم "أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما"، أخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، وابن أبي شيبة، وابن حبان والبيهقي، والترمذي في العلل، والشافعي، وابن الجارود، والأثرم في سننه، وصححه الخطابي، وابن خزيمة، وغيرهما. ومن ذلك أيضًا حديث صفوان بن عسَّال المرادي قال: "أمرنا ـ يعني النَّبي صلى الله عليه وسلم ـ أن نمسح على الخفَّين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويومًا وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط، ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة" أخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة والترمذي، وصححاه والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي. قال الشوكاني في (نيل الأوطار): وحكى الترمذي عن البخاري، أنه حديث حسن، ومداره على عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق، سييء الحفظ. وقد تابعه جماعة، ورواه عنه أكثر من أربعين نفسًا قاله ابن منده اهـ. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى عدم توقيت المسح وقالوا: إن من لبس خفيه، وهو طاهر، مسح عليهما ما بدا له، ولا يلزمه خلعهما إلا من جنابة.
|